كان ذلك كله في الأعوام الماضية، وكان أصحاب الرأي والنظر البعيد يعدونه بداءة طيبة للدعوة إلى نهوض الأزهر، فإن الأزهر إذا سمع الناس يتحدثون عنه، ورأى الناس يهتمون به، ووجد بعض أبنائه والمخلصين له يشاركون في هذه الأحاديث، ويلفتونه إلى هذا الاهتمام، لم يلبث أن يفكر في أمره كما يفكر الناس فيه، ويومئذ تجد دعوة الإصلاح من النفوس قبولاً، ومن الآذان إصغاء، فيتعاون على نجاحها الداعون والمدعوون على سواء.
وقد بدت في هذا العام تباشير تلك الخطوة الثانية في سبيل النهوض، وانتقلت أحاديث الإصلاح من ميدان (الرسالة) إلى ميدان آخر هو ميدان الرؤساء والعلماء والطلاب من أبناء الأزهر المخلصين: شعروا بأن الأزهر في حاجة إلى تكاتف الهمم، وتناصر العزائم، ورأوا تيار العلم في الجامعات الحديثة يوشك أن يكتسح الأزهر اكتساحاً، وعلموا أن الأمة قد تنبهت إلى ما تفعله كل طائفة من أبنائها، وأن الدولة قد أصبحت حريصة على أن تجعل دور العلم للعلم فقط، وأن الأزهر حين انحرف عن طريقه العلمي وانغمس في الحركات، وسُخر في سبيل الأهواء والنزعات، غض ذلك من مهابته، وجرأ الأصدقاء قبل الأعداء عليه، وأزال صيانة الذي كان ينبغي أن يبقى له. علم أبناء الأزهر المخلصون ذلك كله، وعلموا أن عليهم واجباً لمعهدهم العظيم ألا يقفوا منه موقفاً سلبياً، والعيون ترمقهم، والألسنة تتحدث عنهم، والأصابع تشير إليهم، فعقدوا العزم على أن يجعلوا من أنفسهم جنوداً للاصلاح، وخداماً مخلصين للأزهر حتى ينهض نهضته، ويسترد في العالم الإسلامي مكانته، ويعود إليه سابق مجده!
عقدوا العزم على أن يخلصوا للأزهر أكثر من إخلاصهم للأشخاص، ووطنوا أنفسهم على أن يكونوا صرحاء في الجهر بالعلة، أقوياء في المطالبة بالعلاج؛ وسرت هذه النزعة الجديدة في نفوسهم جميعاً: سرت في نفوس الشباب الأزهري كما تسري الحياة في الأزاهير الناشئة، وسرت إلى نفوس الشيوخ كما يسري الماء إلى الجذوع المتعطشة، بل سرت إلى الرؤساء المسئولين الذين يلون المناصب الكبرى في المعاهد والكليات، فأصبح هؤلاء جميعاً مؤمنين بها، متلاقين عندها، متناسين كل شيء من خلافاتهم في سبيلها!
ولست أقول هذا الكلام جزافاً، أو توسعاً في الآمال، فإن له لشواهد حاضرة، وآثاراً بادية، ربما تناولتها في مقالاتي الآتية تباعاً. وحسبي اليوم أن أقول للذين كانوا يظنون أن دعوة