والموازنة، ولا يتجه مرة إلى الخلق والتكوين والإحياء، في تصوير العصور والبيئات والشخصيات؛ وتلك ظاهرة خطرة، فإنها تدل على أن عقلية التسجيل والتدوين والجمع هي التي تسيطر على العقلية الجامعية في مصر. وهذا اللون من البحث ضروري كما قلت، ولكنه لا يفي وحده، ولا بد من اللون الآخر الذي يصور الحياة أو يهب الحياة!
وليس هذا اللون عدواً لذاك، وإنهما ليجتمعان عند الاقتضاء، وقد اجتمعا معاً في كتاب (ابن الرومي. حياته من شعره) للعقاد، وفي كتاب ذكرى أبي العلاء للدكتور طه حسين على أفضل ما يكون الاجتماع.
إن طبيعة الشخصية التي يقدمها لي المؤلف ولون مزاجها، وصورة حياتها، لآثر عندي ألف مرة من جميع الحوادث التي وقعت لها، ومن جميع المعلومات التي تتصل بها، وحسبي من الحوادث والمعلومات، ما يكشف لي عن الطبيعة والمزاج، وما أتعرف به إلى هذه الشخصية من بين مئات الشخصيات!
يتحدث العقاد عن عصر (عمر بن أبي ربيعة) فنحس أن الغزل كان وظيفة ملحة في هذا العصر تتطلب العضو الذي يقوم بأدائها، وأنه لم يكن مفر من وجود شاعر غزل يلبي هذه الحاجة، فكان هذا الشاعر هو عمر بن أبي ربيعة في هذا الأوان.
كيف أحسسنا بروح العصر هذا الإحساس الواضح الملح؟ حكاية من هنا ونادرة من هناك، مما هو معروف مذكور، ومما يمر به القارئ بين الكتب مرات، فإذا صورة العصر بارزة واضحة على النحو الذي أراد!
وهنا يقتضيني الإنصاف - وقد ذكرت البحوث الجامعية والعقلية الجامعية بما ذكرت - أن أثبت أن للدكتور طه حسين بحثاً قيماً عن طبيعة العصر الذي عاش فيه عمر بن أبي ربيعة وعن نشأة الغزل وأسبابها في هذا العصر، وعن تلوين هذا الغزل بالألوان التي اصطبغ بها إذ ذاك، في كتاب (حديث الأربعاء)
وفي هذه الفصول التي عقدها الدكتور عن الغزل وعن عمر ابن أبي ربيعة خاصة يلتقي مع الصورة التي رسمها العقاد حيناً ويختلف حيناً، ولكنه يرسم على طريقته صورة مكتملة للعصر وللغزل فيه، هي إحدى الصور التي نتطلبها في الدراسات الأدبية الناضجة.
ثم نعود إلى (شاعر الغزل) فنرى العقاد ينتهي من صورة العصر ومن وظيفة عمر فيه،