ومن حدود هذه الوظيفة، وهي التعبير عن طبقة خاصة في العصر لا عن العصر كله على السواء، ليبحث عن طبيعة غزله؛ فهو غزل البدوي المتحضر، غزل الفطرة التي تخلقها الحياة في مكة، وقد فارقتها الحكومة والسلطان، ولم تفارقها الثروة والسراوة.
ثم يدلف إلى الحديث عن طبيعة شعره، فيفرق في وضوح ويسر تكاد تلمسها بين طبيعتين من طبائع شعراء الغزل: طبيعة المحب الذي يتوجه بحبه إلى المرأة الواحدة في الوقت الواحد، و (يفرزها) بحبه من بين جميع النساء. وطبيعة اللاهي الذي يتغزل في الأنثيات، وينصرف همه إلى المناوشة والمعابثة. ويكون عمر من الفريق الثاني حين يكون عروة وكثير وجميل من الفريق الأول. وهو فصل من أمتع فصول الكتاب
هذا المتاع لا يتضمنه ذلك الفصل لأنه يذكر أن طريقة عمر وإخوانه الغزليين غير طريقة عروة وإخوانه العذريين، ولكن لأنه يوضح الفارق الإنساني الحاسم بين طبيعة هؤلاء وطبيعة هؤلاء (لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمناً طويلاً أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم، ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء، ويصح أن يقال: إن هذه العلاقة (إصابة حب) كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان فتطول أو لا تطول، وتصيبه وهو مستعد لها أو تصيبه على غير استعداد؛ فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة وحادث من عوارض الأحداث.
(أما حب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع ولو لم يتصل بنساء معروفات، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات)
(فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الأخلاق، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه). . . الخ
وأحب أن يعود القارئ هنا إلى ص٣٩٢ من الجزء الأول من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.
ونعود إلى (شاعر الغزل) لنقع على نقطة جديدة كل الجدة لم يطرقها - فيما أذكر - طارق في اللغة العربية لا عن (عمر بن أبي ربيعة) ولا عن سواه. تلك هي النقطة التي يعرض فيها العقاد لبحث عوامل الاتصال بين (عمر) وبين الأنثيات اللواتي كان يناوشهن بالغزل