تنحاز عنهم لحظة إلا لتعود إليهم من قريب، فتزلزل أقدامهم وتطيش سهامهم. أما أنا فلدي تسعون مريضاً ونيفاً قد استلقوا على الشاطئ القريب يعالجون غصة الداء؛ وسأعد نفسي الجبان، يا سيدي لورد هوارد، إذا أنا تخليت عنهم لهذه الطغمة من أوغاد محاكم التفتيش، وشياطين أسبانيا المتمردين. . .
. . . وهكذا انسحب لورد هوارد بخمس من السفن الحربية في ذلك اليوم، وانطلق موغلاً في اليم حتى ذاب كما تذوب السحابة في صفحة الأفق الغارق في الصمت، المتشح بالدفء والسكون. أما سير رتشارد فقد حمل من الشاطئ رجال سفينته الإعلاء، من مواطنيه أبناء بدفورد في إقليم ديفون. وأضجعهم برفق تام وعناية بالغة فوق الهواجل من قاع السفين، فراحوا يدعون له ويباركونه في ساعات آلامهم الممضة على أن انتاشهم من هذه المحنة، فلم يتركهم فريسة للأسبان يمثلون بهم أشنع التمثيل، ويسومونهم بمعدات نكالهم سوء العذاب.
كان لديه مائة من البحارة لا أكثر، عليهم أن يضطلعوا بإدارة السفينة وتدبير القتال معاً؛ فأقلع مبتعداً عن الفلورز حتى أصبح على مرمى البصر من الأسبان الذين اعترضوا مهب الريح إلى سفينتنا بقصورهم العوائم الفخمة وجواريهم المنشئات كالأعلام. وارتفع صوت منا يقول:
ألا أخبرنا يا سير رتشارد، أنكرّ أم نفِرّ؟. . . إن اشتباكنا في هذا القتال لا يعني غير الهلاك؛ وما نحسب أن سيكون منا في عداد الأحياء إلا القليل عندما تجنح شمس هذا النهار إلى مغربها.
وتحدث سير رتشارد مرة أخرى فقال: نحن جميعاً من أبناء إنجلترا الأنجاد وفتيانها المصاليت؛ فدعونا نسدد الطعن وخضاً إلى هذه الكلاب (الإشبيلية) الخواسيء، أبناء الأبالسة ونسل الشياطين. . .
لا جرم أني حتى اليوم لم أُولِّ الأدبار أمام أحد اثنين: دُونٍ أو شيطان!
نطق السير رتشارد بهذا ثم افتر فمه عن ابتسامة ساخرة. وانفجرنا جميعاً نهتف في صوت مدوٍّ: مرحى، مرحى!. . . وهكذا صمدت (الانتقام) صمد عدوها دون محاشاة، وعلى ظهرها مائة مقاتل، وفي جوفها تسعون مريضاً قد أداءتهم العلل وبرَّحت بهم الأسقام.