تجرؤ على معاودة نزالنا، كأنما قد خشوا أن يكون في نكزنا فضل من حُمة! فانحازوا إلى ناحية منا يتوكّفون مغبة هذا النضال الرائع. ولم نكن قد قاتلناهم عبثاً، ولكن حالتنا كانت بالغة الخطورة، إذ أودى من رجالنا المائة أربعون في محتدم هذا الصراع اليائس؛ وأصيب شطر الباقين بما آفَهُم وأقعدهم عن التصرف مدى الحياة. أما مرضانا في قاع السفين فقد مُنوا من نفحات البرد بما يبَّس أعضاءهم وشلَّ قواهم. . .
وهوت الرماح من أيدينا جميعاً بين متقصَد ومنآد، ونفدت كل ذخيرتنا من القذائف والمتفجرات، وامتلأت جنبات السفينة بكل شراع مقدود وقلَس مبتوت؛ ولكن السير رتشارد راح يتحدث إلينا في كبريائه الإنجليزية فقال:
أيها الرفاق، لقد اضطلعنا طوال يوم وليلة بحرب لن يكون مثلها أبداً، وربحنا من المجد وكرم الذكرى ما أناف بنا على اليفاع؛ وسنودع الحياة في يوم قريب أو بعيد، على نجوة هذا الشاطئ أو في أثباج هذا اليم، فهل نبالي متى يكون ذلك أو كيف يكون؟ ألا أغرق لنا السفينة يا سيدي المدفعي! أغرقها!! أجعلها شطرين. . . ولنقع بين يدي الله ولا نقع في أيدي الإسبانيين!
وأجاب المدفعي الباسل: أجل، أجل. . . ولكن البحارة اعترضوا قائلين: إن لدينا أطفالاً وخلفنا زوجات، وها قد حفظ الله علينا حياتنا، فلنستوثق من الإسبانيين بعهد على أن نحاجزهم فيخلوا سَربنا، لأن من الخير أن نعيش الآن حتى نعود إلى قتالهم في مؤتنف الأيام، فنكيل لهم الطعن خِلاجاً والضرب هَذاذَيْك. . . وهكذا ألقوا السلَم إلى أعدائهم بينما اضطجع القائد الباسل يودع حياته ويجود بآخر أنفاسه
وحملته ثلة من الأسبان المتغطرفين إلى سفينة قائدهم فأضجعوه إلى جانب الدَقل. . . وأقبل عليه القوم يزكّون عمله بلهجتهم الأجنبية المتظرفة، ويشيدون ببطولته على مرأى منه ومسمع؛ فما كان إلا أن نهض بينهم وهو يصيح قائلاً: لقد حاربت في سبيل ملكتي وبلادي كما يحارب الرجل الشجاع المحق. . . لم أزد على أن أديت واجبي كاملاً كما ينبغي أن يؤديه رجل. . . وهاأنا، سير رتشارد جرانفيل، أموت وملء نفسي الغبطة والاطمئنان
ثم سقط في موضعه يكيد بنفسه حتى صفرت منه الوطاب
وحدقوا بأبصارهم في وجه الصريع الذي تجسمت فيه الشجاعة وصدق البلاء، الذي طامن