وقدمت لها بهذه المقدمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب). . . (وكان حين عرفته في إبان شبابه وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي)
ففي هذه الأسطر نرى علي طه وهو ناشئ مغمور ينشط لإلقاء شعره ويرتاح، ويحفظ عن ظهر الغيب مقدمة فيها تنبأ ونصيحة، ثم يعرف صاحب هذه المقدمة التي احتفي بها كل الاحتفاء فإذا هو شاب لا يكبره كثيراً في السن. وتلك مقدمات تصل إلى نتيجة واحدة هي شدة إحساسه بأنه مغمور وأن قريحته في حاجة إلى أن يرفدها بمادة اللغة وآلة الفن. وربما تأثر بأسلوب الزيات الأنيق، فما زال يتحرى الأناقة ويتوخاها حتى أصبح أكثر الشعراء المصريين أناقة غير مدافع. وقد واتته الشهرة الأدبية سخية فياضة؛ ولكن نفسه الحساسة لم تسلم وما كان لها أن تسلم من عقابيل هذا الشعور القديم، فيقول في مقدمة إحدى قصائده:(ألقاها الشاعر في حفل كان من خطبائه الأساتذة الإجلاء: لطفي السيد باشا، الدكتور طه حسين بك، مصطفى عبد الرازق بك، أنطون الجميل بك). وقد جعل هذا دأبه في تقديم كل القصائد التي ألقيت في حفلات عامة كأنه يستكثر بطريقة لا شعورية أن يلقى شعره بين هؤلاء الذين كانوا يملئون أفق الأدب أشعة وشهرة وهو ناشئ مغمور في المنصورة. بل هو يلجأ إلى أغرب من ذلك في تقديم الجندول (تغريدة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب) كأن عبد الوهاب لا يتغنى إلا بجيد الشعر ومختاره، مع أنه غنى الجندول وغنى بعدها (ماتهونش)، (وبلاش تبوسني)
وهذا الأثر الذي أتحدث عنه يبدو كذلك في كثرة حديث الأستاذ علي طه عن الشاعرية ومناجاته لها في (ميلاد شاعر) و (غرفة الشاعر) و (قبر الشاعر). . . ثم في حديثه عن نفسه بقوله (الشاعر)، فهو بهذا وذاك يمدح نفسه وشاعريته عن طريق غير مباشر ولا شعوري
وألاحظ هنا كثرة لجوء الشعراء الشبان إلى الحديث عن أنفسهم بقولهم:(زار الشاعر قرية كذا وقال فيها) مثلاً، والشاعرية كموهبة لا يجوز أن يفخر بها صاحبها بل يدع للناس أن يتحدثوا عنها ويمدحوه بها وإلا جاز لكل صاحب موهبة أن يتحدث عن نفسه فنسمع مثلاً (قال الذكيُّ في حديثه) أو (قهر القويُّ خصمه في الملاكمة) ولن يكون هذا أغرب من ذاك
وأعود فأكرر ما قلته في أول هذا المقال من أن الأدب العصري مدين للحرمان بنبوغ