فهو (الأديب الحائر) كما قاله عنه مرة الدكتور طه حسين. إنه الشك غير الواعي في طبيعة هذا الفنان، وإنه القلق الدفين في نفسه، يصدانه عن التعرض للحلول الحاسمة وعن الفصل فيما يعرض من مشاكل وأزمات. وإن ظن أنه مختار في اختيار هذه الطريقة!
ومع هذا فكم وددت لو تخلفت هذه الطريقة في (سليمان الحكيم)، أولو سار عليها، ولكنه ظل - كما بدأ - يدع الحادثة تتكلم، بدل أن يلقن أشخاصه الحديث، وبدل أن يطيل الحوار الفلسفي ليعرض به ما يريد أن يعرضه من المشكلات
لقد نسج (توفيق الحكيم) أهل الكهف وشهرزاد وبيجماليون على منوال واحد يختلف نسيجه بعض الشيء في الواحدة منها عن الأخرى، ولكنه منوال واحد على كل حال. فأما (سليمان الحكيم) فقد نسجت على منوال آخر يختلف في طبيعة قالبه عن ذلك المنوال.
في التمثيليات الأولى - على خلاف بينها في الاتجاهات - كان المؤلف يبرز لنا شخصيات ويدير بينها حواراً حول مشكلة فلسفية أو إنسانية، فنشعر لأول وهلة أن هذه الشخصيات إن هي إلا دمى تحركها أصابعه من وراء ستار لتنطق بهذه الأفكار
وتختلف تلك التمثيليات في هذه الخاصية - كما قلت -؛ ففي (شهرزاد) مثلاً لا يخطر لقارئ يفهم ما يقرأ أن (شهرزاد) و (شهريار) و (قمر) و (العبد). . . هم أشخاص حقيقيون ممن نلتقي بهم في هذه الحياة؛ وإنما هم منذ أول لحظة رموز؛ والمشكلة التي يراد منهم التعبير عنها هي مشكلة القلق الإنساني والشك العقلي، والتطلع إلى المجهول، والتخلص من الواقع بعد ارتواء الغريزة والحصول على الاكتفاء الأرضي المحدود. وفي (أهل الكهف) ربما خطر للقارئ أول الأمر أن (مشلينا وبريسكا، وأرنوش ويمليخا). . . هم أشخاص حقيقيون - ولو كانوا من أشخاص الأساطير - ولكنه يلمح هنا وهنالك ما يشككه في واقعيتهم؛ وما يلبث أن ينكشف له أنهم رموز وأن المشكلة التي يراد منهم التعبير عنها هي مشكلة الصراع بين الفناء والإنسان، أو بين القلب والزمان. وفي (بيجماليون) يحس القارئ من أول الأمر أنه يعيش في جو أسطوري رمزي وأن (بيجماليون) و (جالاتيا) و (فينوس) و (أبولون) و (نرسيس) و (إيسميه). . . إن هم إلا رموز لقوى بشرية وكونية تتصارع في الحياة أو في نفس الفنان؛ وإذا تصور لحظة أن بيجماليون هذا إنسان خاص، فسرعان ما يرى أنه رمز للفنان الحائر المثالي والواقع الحي، وبين الطموح الخالد والقدرة