وأصعب ما في علاج هذه البواعث أنها لا تعالج بالقمع لأن كبت الأهواء هو الدال العضال لمن يصابون بمثل هذا المصاب؛ ولا تعالج بالإباحة لأن (المعاصي) كما قال الأباصيري تقوي شهوة النهم ولا تشبع الشهوات
إنما تعالج هذه الآفة بالإيمان و (إحياء الروح) التي تعصم نوازع الفساد في الأجساد
وإنما يتوطد هذا الإيمان بالإقبال على العمل المفيد، وإقناع كل من خامره الشك في مصير العالم بأن العالم يسعى إلى غاية مقصودة وغاية مستطاعة ولو في مرحلة منها بعد مرحلة، وأن الحرب لم تذهب عبثاً ولم يرجع الناس بعدها إلى مثل ما كانوا عليه قبل فناء ما فني وخراب ما خرّب وضياع ما ضاع وهو كثير لحد كثير. فإذا وجد الناس أنفسهم بعد الحرب عاملين مجتهدين، ووجدوا أن عملهم واجتهادهم عوض صالح لما فقدوه وأصيبوا به من الخسائر والقلق والعذاب، وأيقنوا أن الطامة الكبرى لم تذهب عبثاً في غير مغنم وفي غير صلاح وإصلاح، وأن داء الإنسانية ليس بالداء العضال الميئوس منه أبد الزمان، ففي هذا وأشباهه من دواعي الإيمان والعقيدة ما يبعث العزاء ويشحذ الهمم ويعصم الأرواح من مزالق الشهوات
وهنا تدور الحلقة المفرغة التي لا يُدرى أين طرفاها. فإذا عولجت مسألة التجارة العالمية عولجت مسألة البطالة والتأمين الاجتماعي. وإذا عولجت هاتان المسألتان ثابت النفوس إلى التفاؤل بمصير العالم وتهيأت القلوب للتصديق بغاية شريفة في الحياة، وظفر المصلحون النفسانيون ببلسم الجراح وأكسير الأمل وعنصر العقيدة التي تؤيدها المشاهدات العيانية ومطامح الآمال
ولك أن تقول إن النفوس إذا صدقت عملت وانشرحت لعملها، وإذا عملت وانشرحت لعملها لم تتعاظمها المصاعب ولم يعسر عليها تفريج الأزمات وفض المشكلات
فهما قولان متقاربان
وليس من الضروري أن نعرف أين الابتداء وأين الانتهاء في هذه الحلقة المفرغة. فإن النفس الإنسانية لن تعيش أبداً في طور من الأطوار خلواً من المزيج الذي تتلاقى فيه دواعي العمل ودواعي العقيدة، وبأيها ابتدأت فأنت واصل إلى نهاية تستحق عناء الوصول