وهذا الأدب الحنيّن قد يكون فيه الصادق السليم، وقد يكون فيه الكاذب المريض. ولكنه على كل حال لون واحد من ألوان الأدب، يعبر عن مزاج واحد من الأمزجة، في حالة شعورية واحدة من حالات الشعور
فإذا نحن جعلنا همنا أن نهمس فقط، وأن نكون وديعين أليفين فقط، وأن تكون الحنية هي طابعنا فقط؛ فأين نذهب بالأنماط التي لا تعد من حالات الشعور وحالات النفوس وحالات الأمزجة، في هذه الحياة الحافلة بشتى الأنماط؟
يسمي الأستاذ شعر المتنبي شعراً خطابياً، ويعني أن المتنبي لا يهمس ولا يلقي إلينا تعبيره في دعة وفي حنيّة أو في همس كما يقول مثلا ميخائيل نعيمة
أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه
. . . إلى الآخر
وإن الأستاذ مندور ليقف معجباً أمام صورة هذا الجندي المنهوك الذي يلقى بجسمه في أحضان خلانه، وهي صورة وديعة منهوكة قد تكون جميلة في مكانها؛ ولكن أي خطأ ينتظرنا حين نطالب المتنبي العارم الطبع، الصائل الرجولة، بأن يحدثنا في وداعة كوداعة ميخائيل نعيمة؟
أنا لا أحاول (مؤقتاً) المفاضلة بين الطبيعتين، ولكني أحاول فقط أن أقول: إن الصدق هو الذي يجب أن ننظر إليه حين نقف أمام عمل الشاعر أو الفنان بوجه عام. وإن المتنبي لصادق أجمل الصدق، وهو يجلجل ويصلصل في شعوره وفي أدائه، لأنه هو هكذا من الداخل. وتلك صورة لنفسه ولمزاجه، وإنها لنفس صادقة، وإنه لمزاج أصيل
يجب أن نوسع آفاقنا ولا سيما حين نقف موقف النقاد - فلا نحكم مزاجنا الخاص، الذي قد لا يكون أصدق الأمزجة، بل الذي قد يكون ثمرة (عقدة نفسية) أو حادثة عارضة من حوادث حياتنا الشخصية
وإنه ليستلفت نظري أن جميع النماذج التي استعرضها الأستاذ مندور هي من اللون الذي يشيع فيه الأسى المتهالك المنهوك. فهل أفهم أن هذه عناصر محببة إليه وحدها، وأن الشاعر لا يكون شاعراً حتى تشيع هذه العناصر في شعره؟