(إن الشوط لطويل. وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!
والعش الذي خلفته ستظل فراخه زغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء!
نحن اليوم غرباء يا أماه
لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات، وكنا نشبه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكثر من فروعها لتتقي الاندثار في غربتها!
أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى غصنها، بعد اغترابها من تربتها. وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!
(أماه. . .
من ذا الذي يقص عليّ أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟
لقد كنت تصورينني لنفسي كأنها نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً! وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسيج خيالك ووحي جنانك! فمن ذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومن ذا يوحي إليّ بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟
لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟
قد يفرح لي الكثيرون. وقد يحبني الكثيرون. ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده. . . وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي، وحب نفسك في نفسي. . .!
أماه. . .
عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد