للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بدا لي بعد ذلك أن أقيم العصفور في الشرفة لحظات من كل صباح وأنا أتهيأ للخروج، لعل الصقر يدنو فأصطاده، وأنا مولع باصطياد الصقور والنسور، ولكن الصقر كان أمكر مني فقد كان يقف من بعد، ثم ينصرف حين يعرف ما أريد

قلت لأبنائي: إن الصقر لن ييأس، وهو يتحرق شوقاً إلى لحم العصفور المغرد، وفي هذه المنارة لوح من الزجاج حطمه رصاص المدافع أيام الغارات الجوية، فانتظروا نزول الصقر من هذا المكان لتصطادوه، إن اجترأ على النزول

ثم كانت العجيبة الآتية:

جاء عيد الفصح، ومضى أبنائي إلى سنتريس، لشهدوا مطلع الربيع في الحديقة التي تنتظر قدومهم في كل صباح، الحديقة التي أعدّ أشجارها من أبنائي

ونظرت فرأيتني في البيت وحدي، ورأيت العصفور في إملاق، فلم يكن أمامه غير حبات لا تدفع غوائل الجوع، وهو أضعف من أن يحتمل الجوع

مضيت إلى دار ابني الأكبر أستشيره فيما أصنع، وكان العصفور غرّد بعد الغروب، وهو لا يغرِّد بعد الغروب إلا في توسل الملهوف

وخرجنا فطوفنا بشوارع مصر الجديدة وبعض شوارع العباسية فلم نجد طعام العصفور في أي مكان

وبعد متاعب وجدنا نوعاً من السمسم يصلح لاقتيات العصافير، فيما قيل

أقبل العصفور على السمسم يلتهمه بلا احتراس، ليأمن غائلة الجوع، ألم أكن أقدم إليه أغصاناً يابسة فينقرها بشهية لأنها تذكره بعهد أجداده في حضانة الغابات؟

ولكن نشاط العصفور أخذ يضعف من يوم إلى يوم، وانتهى الأمر بموته في جنح الليلة الماضية، فما العبرة من ذلك الموت، ولكل موتٍ عبرة؟

أماته الاكتفاء بالطعام الواحد، والطعام الواحد يميت الجسوم والعقول

الآن عرفت كيف كان يغرّد بأسلوب رتيب لا يعرف تلوين الألحان

الآن عرفت كيف تقترب طرائق الصوت عند أكثر صنوف الحيوان، فما كان ذلك إلا لأن كل أمة حيوانية لها طعام واحد، ولو بَعُد ما بينها بعد الشمال من الجنوب

الآن عرفت كيف امتاز الإنسان باختلاف الألوان في الملامح والطبائع والأصوات، وكيف

<<  <  ج:
ص:  >  >>