والمرح. . . وما عسى أن يكون هذا إلا صدى لروح الملاح التائه الذي يستعذب القلق والحيرة، ويجد فيهما الفرح والبهجة؟
إن الأستاذ (علي محمود طه) ليصور لنا في ديوانه الجديد روح الملاح التائه، فيعرض لنا في قصيدته (سارية الفجر) صورة جميلة لغادة فاتنة عبرت به في الصباح الباكر؛ وهنا نراه ينظر إليها نظرة الملاح التائه أيضاً، إذ ينبئنا بأنها عرضت له عند الفجر حتى لقد عجب لهذه الغادة وقال:
هذه الساعة تسعى امرأةٌ ... حين لم يخفق جناح الطائر!
وهو لا يقف عند هذا الوصف، وإنما يضيف إليه وصفاً جديداً تكتمل به صورة الحيرة والقلق، فيصور تلك الغادة وقد أخذت تقطع الإفريز كالأسير الهارب من الأسر، وهي تتقي الأعين أن تبصرها، وتلتفت إلى العابرين التفات الحائر، ولا تعبأ بالمطر الذي يصيبها والبرد الذي يلفحها. . . الخ. وينظر المرء مرة أخرى فلا يرى في هذه الصورة غير طيف لتلك الصور التي عرضت لصاحب (الجندول) حين كان يلتقي بغادات أوربا الجميلات فلا يستطيع أن يظفر منهن بغير اللفتة العاجلة والنظرة العابرة! وهل كان الحب عند الملاح التائه غير هذا القلق المغَلَّف بالمرح والبهجة؟
إني لأكاد أجزم بأن الحيرة والمرح هما كل شيء في (شاعرية) الأستاذ علي محمود طه؛ ومن أجل ذلك فإننا نراه يعنف حيناً في تصوير موقف الإنسان أمام الطبيعة، ونراه يفرط حيناً آخر في تصوير متعة الإنسان التي يجدها في الطبيعة. وهو في كلتا الحالتين يعبر عن روح الملاح التائه التي قد يطغي عليها القلق حيناً فتعنف وتشتد، ولكنها لا تلبث أن تعود إلى مرحها فتطرب وتبتهج. والظاهر أن المرح أغلب على تلك الروح، فإن الحيرة تمتزج بالحب فتذهب مرارتها في عذوبته. والحب عند الملاح التائه ينزع إلى أن يصبغ كل شيء في الوجود بصبغته الجميلة المستحبة. وهل ننسى أن صاحب الجندول هو الذي يقول: