أن الموضوع لا تتحرك الهمم لنقله، إلا إذا راع النفوس بشكله، وأن الترجمة لا تكون صحيحة إلا إذا نقل المترجم أسلوب الكاتب أو استبدل به مثله
إذا حَلِيَ في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبتُ إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها؛ فدعك من أولئك الذين عادَوا الكمال الفني بطبائعهم فآثروا جانب التسمح والتجوز والمجازفة والمعافاة: كزولا، وبلزاك، واستندال، وسائر الذين رآهم فُلتير يحاصرون (معبد الذوق) ثم لا يستطيعون أن يَظهَروه ولا أن ينقبوه ولا أن يمنعوه. ولا تبال أولئك الذين نزلوا بقصورهم عن طبقة البلغاء فتنطعوا بركيك الألفاظ، وتكثروا بسخيف التراكيب، كهذه الكثرة الكاثرة من كتاب العربية وشعرائها في هذا العصر، فإنهم كما قال ابن قتيبة في أهل زمانه:(قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مركب العجز، وأعفوا أنفسهم من كد النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة). دعك من هؤلاء وأولئك وانظر أنت في الأسلوب الذي ارتضيته لنفسك فتعهده بالتصحيح والتنقيح ما استطعت، ولا تحفل الزمن الذي تنفق فيه؛ فإنك تخلق الخلق ليعيش، وتبدع الأثر ليخلد. والزمن لا يُبقي على عملٍ يتم بدونه. وما العبقرية كما يقول بوفون إلا صبر طويل. ولا عليك أن يقال عنك إنك بطيء بكيء؛ فإن زهيراً لم يعبه أحد بحولياته، وابن المقفع لم يغض من عبقريته قلة مؤلفاته، وأبو نواس شهر بالتخير والتفكير، كما شهر أبو العتاهية بالارتجال والاقتضاب، فجاء شعره كله من حر الكلام ومختاره، كما جاء شعر الآخر على رأي الأصمعي (كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى). وللابرويير كتاب واحد، ولفلوبير كتابان؛ ولو كان لبلزاك كتاب من طراز (الشمائل)، أو كتابان على أسلوب (مدام بوفاري) و (سلامبو) لما قلت شهرته بهما عن شهرته بمجلداته الخمسين
والروية والعمل والتهذيب والتأنق تشف عنها العبقريات الخالدات للعباقرة الخالدين. فهنا تجد الفرزدق ومسلم بن الوليد وأبا تمام وأبا العلاء وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف والجاحظ وابن العميد والحريري؛ وهناك تجد بوالو ولافونتين وتين ولابرويير وبسكال ومنتسكيو وفلوبير وشاتوبريان وإدمون رستان!
كان لافونتين ينظم المثل ثم ينظر فيه عشر مرات، وفي كل مرة يحرر ويغيِّر، ويحذف