الفني ذا الآفاق الوسيمة، والنفس الرحيبة. وقد لا يكون أفضل الألوان حين يكون المقياس هو صدق التعبير عن الحياة، لا إرضاء الأمزجة الخاصة المتأثرة بماض خاص
ومن الذي يقول: إن الهمس والوسوسة في الطبيعة أصدق من الجأر والجهر؟ إن بغام الظباء ليس آصل في الحياة من زئير الآساد؛ وإن خرير الجدول ليس أعمق في النفس من هدير الشلالات؛ وإن وسوسة النسيم ليست أوقع في الحس من زمجرة العاصفة
والموسيقى؛ ما شأنها في هذا المجال، (وهو خاطر جال في نفس الموسيقي المصري المبدع الأستاذ الشجاعي بهذه المناسبة) انقضى مثلاً على موسيقى (واجنر) وكثير من سيمفونيات بتهوفن وسواه في سبيل الهمس الذي تلجأ إليه الطبيعة مرة، كلما لجأت إلى مختلف النغمات والطبقات مرات!
كل مقاييس الفنون تنكر أن يكون الهمس أجمل أو أصدق أو أعمق. وإن هو إلا (حالة) من حالات، بل حالة لا تلجأ إليها الطبيعة والحياة إلا في فترات الراحة من عناء الضجيج! وليست الحياة كلها راحة إلا أن تكون حياة مزاج خاص يرى الدنيا من زاوية واحدة صغيرة!
ألا وإن الدنيا لحفية بالهامسين والجاهرين وإنهم لأبناؤها المخلصون في جميع نغماتهم وطبقاتهم ما داموا صادقين. وإن هذه النغمات والطبقات لكثيرة منوعة تنوعَ النفوس، بل تنوعَ الحالات النفسية في الإنسان الواحد. وإننا لنعجب بالمتنبي مثلاً حين يجهر بأعلى صوته:
أفكر في معاقرة المنايا ... وقوْد الخيل مشرفة الهوادي
زعيم للقنا الخطى عزمي ... بسفك دم الحواضر والبوادي
إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيعْ الشعر في سوق الكساد
كما نعجب به حين يهمس في حنين:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
أو حين يهمس في ألم مرير:
وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا أعوز المطلوب قل المساعد