وكان الروم والهند والصين يفدون على كسرى وفيهم الخطباء المصاقع فيذكرون من بلادهم ما يدخل اليوم في باب الدعاية السياسية. ولاشك أن هؤلاء الرسل كانوا يختارون من أحسن الناس كلاماً وإلا ضاعت الحكمة من إيفادهم وذهبت المزية من اختيارهم
والخطابة تروج في زمن الحروب وتصادف من الآذان سمعاً واستجابة. وسيسجل تاريخ الحرب الحالية أسماء صفوة من الخطباء من أنصار الديمقراطية ومن أعدائها. وكم يكون الأدب سعيداً لو أن هؤلاء الخطباء أنجبتهم ظلال السلامة ومنابت الأمن والطمأنينة. ألا إن الدفاع عن الحرية يتطلب دائماً ثمناً غالياً.
وقد يكون القائد المحارب نفسه خطيباً مفوهاً ومتكلما فصيحاً؛ فيمسك قائم سيفه بيده ولسانه بفمه يحض الجنود على القتال ويشجعهم على المصابرة كما فعل خالد بن الوليد في معركة أجنادين بين الروم والعرب حين قال فيما قال:(اقرنوا المناكب، وقدموا المضارب، ولا تحملوا حتى أمركم بالحملة، ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من القسي كأنها تخرج من كبد قوس واحدة. فإنه إذا تلاحقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب)
أو كما فعل طارق بن زياد حين عبر العدوة من الأندلس وبلغه دنو (الذريق) فخطب خطبته المشهورة التي أولها (أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر)
ومن الخطب السياسية خطب الفتوح وتلقى عادة عند إتمام فتح أو إكمال غزو. والغرض منها بالطبع الدعوة للفاتح الجديد وتهنئته وإدخال الناس في طاعته. وضمهم إلى حوزته. وأشهر الخطب من ذلك النوع خطبة القاضي محيي الدين بن علي المعروف بابن الزكي التي ألقاها في مسجد القدس مهنئاً صلاح الدين بأخذ بيت القدس من الصليبيين. وهي خطبة تاريخية طويلة تمتاز بقوة عبارتها ألا إن السجع يفشو فيها جريا على طريقة عصرهم وأسلوب زمانهم
وهناك طائفة من الخلفاء تغلب الصنعة الخطابية عليهم؛ فلقد كان الخلفاء الراشدون خطباء فصحاء كما كان معاوية وعمر بن عبد العزيز الأمويان والمنصور المهدي والرشيد العباسيون