للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحياة ونعرف به؟ إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان، بل أصبحوا يقولون: هذا فلان، وهذا أخوه، وهاتان أختاه!)

هذا هو الإحساس الذي لا يعجب الأستاذ مندور: شعور الأبناء - بعد أمهم - بأنهم فقدوا عنوانهم في الحياة أمام أنفسهم وأمام الناس، وأنهم لم يعودوا يعرفون من هم، بل لا يعرفون ما هم!

وفي هذا الرثاء أحاسيس أخرى صادقة عميقة. تجاوزها ولم يشر إليها؛ ففيه الإحساس بالتناثر، والإحساس باليتيم، والإحساس بالغربة في الحياة كلها. وفيه الأسى على صور الأمومة الحية النابضة حين يقول:

(من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب. ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود)

وحين يقول:

(عندي لك أنباء كثيرة. كثيرة جداً ومتزاحمة. تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك، وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد لنا في غيبتك من أحداث، وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة يا أماه إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات فسيدركها الفناء. وستغدوا إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى)

هذه الأحاسيس، وهذه الصور لا تعجب الأستاذ مندور: (ولا إيقاع فيها ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل) ولا تدل بحال من الأحوال ذكر (الفسطان العتيق) ولا (اليدين اللطيفتين) ولا (وقع القدمين حول السرير) ولا (غابة السنديان)

لماذا؟ لأن في القطعة الأولى معاني كبيرة وأحاسيس عميقة، وليس فيها (فتات). ولهذا دلالته القوية فيما نحن بصدده. فهنا مزاج موكل بالأحاسيس الصغيرة الهامسة والمظاهر التافهة الساذجة، لا يستقل حسه بإحساس ضخم، ولا بصورة مركبة، ولا يطيق أن يرى في الحياة إلا الأطياف الباهتة، ولا أن يسمع في الطبيعة إلا الهمسات الخافتة. وتلك الجزيئات المفردة تستلفت نظر المرأة بشدة في الحياة، ونظر ذوي الأمزجة الخاصة كذلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>