ويمضي ماترلنك في درامته هذه، فيصور لنا وساوس الجد المسكين وقلقه. إنها لم تشعر بالروح والنشاط كما زعموا. . لا. . ولكن ماذا حدث. . .؟ فلقد هب الهواء. . . وخرست العنادل، وهاهو ذا خفق أقدام البستاني يرتفع. لقد بدأ عمله. . ويثرثر الفتيات؛ ويضطرب الشيخ، فقد شعر بدخول مخلوق لا يستطيع أحد أن يراه. . . إنه يرى. . . يرى ما لو تكلم به لسخروا منه. . . دخل هذا المخلوق الرهيب. . . إنه هنا، في الدار، يحس به ويضطرب قلبه له. ويطرق الشيخ الأعمى لحظة، وتدخل الراهبة فترسم الصليب. . . لقد ماتت المرأة. . .
وجهد ماترلنك في إفهام القارئ أن الموت دخل إلى غرفه أولئك الأحياء، وكان بينهم، كما أنه في كل ساعة، وفي كل مكان، يستطيع أن يدرك المخلوقات كلها
وماترلنك يدخل الموت في جميع مسرحياته، فالموت يسدد ضرباته دائماً للشباب والنعيم والحب، لا لأن السعادة أو الحب تصبان بما لا يصاب به الحقد والألم والبغض، بل لأن ضرباته شداد في السعادة والحب. . . خفاف في الشقاء والحقد.
وينحو النحو نفسه في درامته (العميان فمن هم هؤلاء الإثنا عشر أعمى: ستة عميان، وست عمياوات، التائهون في غابة من غابات أفريقية الاستوائية، تحت سماء صافية مزدانة بالنجوم. ينتظرون عودة الكاهن الذي قادهم إلى تلك المناطق البعاد، فتركهم فيها ومضى. هؤلاء العمى رمز الإنسانية القلقة الحائرة، التي تجهل الطريق الواجب اتباعها، وترتقب نجدة خارجية من دين أو فلسفة، فتنقذها مما هي فيه. إن أولئك العميان وهم في تلك الغابة، لا يجهدون ولا يتحركون لأشد ضعفاً من الأطفال. . . ماذا يفعلون وقد غاب الدليل. . . إن صخوراً شما، وهوى سحاقاً تحيط بهم. لقد حكم عليهم أن يبقوا في هذا السجن وسلط عليهم الموت، فهم يشعرون به عندما يفقد بعضهم بعضاً ولكنهم لا يجدون إلى رؤيته سبيلاً.
على أن درامته المسماة (بيلياس وميليزاند أشد سحراً ورقة، وأقرب ما كتب ماترلنك من الواقع. وقد افتن الموسيقيون في وضع ألحانها، فجلتها موسيقى شعبية ذائعة. حتى أن سلطان النغم أكسبها قوة ورقة، وأن كانت هذه الموسيقى قد أوضحت بعض ما كان ينبغي