للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فاقتطف من أزاهير المعارف ما شاء أن يقتطف، واجتنى من يانع ثمارها ما راق منظره وطاب مخبره، وبرز على أقرانه أيما تبريز. ومن أشهر مشايخه في الأدب أبو عمرو بن العلاء. ولما آنس من نفسه الكفاية رأى أن أخذ العربية عن الحضريين من العلماء والمترددين إلى الحواضر من الأعراب الذين لانت سلائقهم وضعفت طباعهم لا يوصل إلى اليقين ولا يهدى إلى مهيع الصواب، وعلم أن التبحر في هذا الشأن لا يتيسر إلا بمشافهة الأعراب الخلص الذين توقحت سلائقهم، وصفت عربيتهم، ومعايشتهم في ديارهم، فشد الرحال، وضرب في كبد الجزيرة، وطفق يفلي ناصية الفلاة ويتنقل في الأحياء التي حلت في سرة البادية ولم يكدر صفاء لغتها مخالطة حمراء الأمم وصفرائها كقيس وتميم وأسد وغيرهم ممن خلصت عربيتهم، فكان يلتقط ما يعثر عليه من درر كلامهم وفرائد خطبهم ونوادر أخبارهم وعيون أشعارهم وجليل آثارهم، فما عاد إلى وكره حتى وعى في حافظته أدباً وعلماً جماً، كما أوقر راحلته رقاقاً وطروساً ومهارق حشد فيها شوارد النثر وفرائد النظم فكانت تلك المنقولات عدته في استخراج المسائل وبناء القواعد، وتبويب اللغة، وتصحيح القياس والإكثار من الشواهد والتوسع في إبداء البراهين.

عقله

كان الخليل آية من الآيات في الذكاء ودقة التصور، وتوقد الفطنة، وصدق الحدس، وسعة الحافظة، وقوة الذاكرة، ورجاحة العقل، حتى كانوا يقولون: (لا يجوز على الصراط أحد بعد الأنبياء أدق ذهناً من الخليل) ولا حاجة بنا إلى برهان أنصع من هذه المبتكرات التي أخرجها للناس كما سيمر بك بعد. وقد نقل أهل العالم عنه حكايات من هذا الشأن تتجاوز حد التصديق لولا ثقة رواتها وتكاثر نقلتها. من ذلك أنه جاءته رسالة عربية مكتوبة بالحرف السرياني فقرأها وهو لا يعرف شيئاً عن الحرف السرياني ولكنه استعان بما عرف أنها تصدر عادة بالبسملة والحمدلة ونحوهما

قال الرواة: اجتمع الخليل وعبد الله بن القفع ليلة يتحدثان إلى الغداة فلما تفرقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ فقال: رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله. وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: رأيت رجلاً عقلة أكثر من علمه

وقال حمزة بن الحسن الأصفهاني:

<<  <  ج:
ص:  >  >>