(إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل. ليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذ، ولا على مثال تقدمه احتذاء. فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره، ومن تأسيس بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة، ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام. م
مبتكراته
لقد أبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها، واخترع علوماً أعجزت المتقدمين كما بهرت المتأخرين، فلا عجب إذا سميناه (شيخ المبتكرين من العرب)
(علم العروض): لو لم يكن للخليل من المبدعات إلا هذا العلم لكفاه منقبة، فإنه - لعمري - أبدع في تنسيق قواعده، وضبط أبوابه، كما بهر الألباب باختراعه. فقد حصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً على كيفية أدهشت الفطن، وحيرت الأفئدة. ونحن نعلم أن كل مبتكر يعتريه في بادئ الأمر الاضطراب، ويحف بالنواقص، فلا تستقيم قناته ويلبس الحلة التي تليق به إلا بعد أن تختلف العقول على صقله وتثقيف أوده حيناً من الدهر؛ سنة الله في خلقه. ولكنا رأينا علم الخليل بلغ الرشد يوم ولادته، فلم يستدرك عليه من جاء بعده باباً أهمله، أو قاعدة أخل بها، أو فصلاً ذهل عنه، أو اصطلاحاً غيره خير منه - إلا ما كان من أمر البحر الذي زاده تلميذه الأخفش وسماه (الخبب)، ولا يعسر رد هذا البحر إلى واحد من بحور الخليل
(الشكل): كان الخط في صدر الإسلام خلواً من الشكل والإعجام؛ فوضع أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة ٦٩هـ علامات للحركات الثلاث، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة بين يديه، وجعل التنوين نقطتين، كل ذلك بمداد يخالف مداد الحرف. فلما وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر من الحجاج نقط الإعجام اضطرب الأمر واشتبه الإعجام بالشكل فتصدى الخليل لإزالة هذا اللبس فوضع الشكل على الطريقة المعروفة اليوم، وبنى ذلك على مقاييس مضبوطة وعلل دقيقة بأن جعل للفتحة ألفاً صغيرة مضطجعة فوق الحرف، وللكسرة رأس ياء صغيرة تحته، وللضمة واواً