ومن أنصع البراهين على ذلك أن أمير الأهواز (سليمان بن علي) أرسل إليه يلتمس منه الشخوص ليقيم بحضرته ويؤدب أولاده فأخرج الخليل للرسول خبزاً يابساً وقال: كل فما عندي غيره. وما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه؟ فقال له؛
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وكان سفيان بن عيينة يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل. وقال تلميذه النضر ابن شميل أقام الخليل في خص بالبصرة لا يقدر على فلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال الطائلة
ومن أوابد حكمه:
وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب
فكن مستعداً لدار الفنا ... ء فإن الذي هو آت قريب
وبالجملة فقد كان الخليل إحدى حسنات هذه الأمة وقمراً من قمارها، ودرة في تاج مفاخرها
وفاته
اختلف المؤرخون في السنة التي انتقل فيها الخليل إلى جوار ربه، فذهب جمهورهم إلى أنه توفي سنة ١٧٠هـ. وقال آخرون سنة ١٧٥هـ وقال بعضهم سنة ١٦٠هـ وأغرب خطأ وقع في ذلك هو قول ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه مات سنة ١٣٠هـ وهو منقول عن الواقدي. قال المحقق ابن خلكان أنه خطأ قطعاً والصواب ما أثبتناه أولاً
وكانت وفاته في البصرة مسقط رأسه فكانت البصرة مشرق هذا الكوكب الوقاد ومغربه. وقد ضمته تربتها إلى من ضمت من أعلام العلم وأقمار الفضل ونجوم الهدى ورجال التقى الذين حلوا الآداب بأنفس الحلي، ونهضوا بالمعارف الإنسانية إلى مراتب العلا، فكانوا للعلم جمالاً، وللتأريخ أبهة وجلالاً، رضى الله عنهم ورضوا عنه ولقاهم في دار رضوانه تحية وسلاماً