للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد، أن موقفنا - نحن الناطقين بالضاد - تجاه مقدمة ابن خلدون يختلف بطبيعته عن مواقفنا تجاه مؤلفات أمثاله من الغربيين. ذلك لأننا لا نطلع - عادة - على آراء القدماء من الغربيين إلا من خلال بعض المقتطفات والدراسات، فنتوهم بأن كل ما قاله هؤلاء وكتبوه كان على ذلك الطراز. مع أن تلك المقتطفات والدراسات، تستهدف - بوجه عام - إظهار منزلتهم العلمية، فلا تحتوي في حقيقة الأمر إلا على الجوهر الهام، والزبدة المنتقاة من آرائهم وكتاباتهم الأصلية. بينما نحن نطلع على ما قاله ابن خلدون من قراءة مقدمته مباشرة ونحيط علماً بكل ما جاء فيها من غث وسمين. . . فالمقارنة التي تحدث في أذهان بهذه الصورة، بين ابن خلدون وبين أمثاله الغربيين، تكون بعيدة عن الحق والحقيقة، بطبيعة الأمر

إن مثلنا في مثل هذه المقارنات كمثل من يريد أن يقوم بمقارنة بين المناجم المختلفة، فيقدم على الموازنة بين الفلز الطبيعي الموجود في أحدها، وبين المعادن الصافية والجواهر اللماعة المستخرجة من غيرها. . . من غير أن ينتبه إلى أن تلك المعادن والجواهر أيضاً كانت ممزوجة ومخلوطة بمواد ترابية وحجرية خسيسة، وإنها لم تظهر بمظهر الحالي إلا بعد تصفيتها من النفايات؛ كما أن الفلز الطبيعي الموجود في المنجم الأول أيضاً يحتوي على جوهر ثمين - قد يبهر الأبصار - مثل تلك الجواهر، بل أكثر منها، إذا ما عولج وصفى مثلها

من البديهي أن المقارنات يجب أن تجري تحت شروط متساوية: فعلينا إما أن نقارن الفلز الطبيعي بالفلز الطبيعي، وإما أن نقارن المعدن المستخرج والمصفى بالمعدن المستخرج والمصفى. أما مقارنة الفلز الطبيعي من منجم ما، بالمعدن المصفى المستحصل من منجم آخر، فما لا يتفق مع مقتضيات العقل والمنطق، بوجه من الوجوه

فيجب علينا أن نتجنب سلوك مثل هذه الطرق في دراسة ابن خلدون. يجوز لنا أن نقارن الآراء الثمينة المستخرجة منها بما استخرج من أمثالها. وأما المقارنة بين المقدمة بهيئتها المجموعة وبين الآراء القيمة المستخرجة من الكتب المماثلة لها، فما لا يجوز أبداً

إن المقالات التالية، ترمي قبل كل شيء إلى تطبيق هذا المبدأ في دراسة مقدمة ابن خلدون، وإظهار منزلة مؤلفها العظيم، على هذا الأساس القويم

<<  <  ج:
ص:  >  >>