أن نلتقي هناك. . . هناك. . . في تلك الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين؟ أليس أحجى أن نلتقي ثمة بين يدي اللطيف الحميد. . . الجنة التي لا موت فيها لهذا الموت، ولا فقر ولا مرض ولا جوع ولا شره ولا بوائق؟. . . الجنة الوارفة الظلال التي تلتقي فيها الأرواح السعيدة بعد هذا السفر الممل والغياب الطويل والنوم الهامد الخامد. . . الجنة الجميلة الخالدة التي لا تذبل فيها زهرة، ولا يظمأ فيها عصفور، ولا يحسد فيها فقير، ولا يعيش فيها بائس، ولا يشقى في رحابها يتيم، ولا يكنز المال فيها قارون، ولا يطالب فيها شيلوك برطل من لحم المدين، ولا يقتل فيها عباد الأصنام أنبياءهم الصالحين!
إن الله يا بني هو المثل الأعلى فلا يصوره لك ضلالك هولة أو غولاً أو وحشاً أو سعلاة. . . إن الذين يخافون الرحمن كما تخاف الجن والسعالي، ويخشونه كما يخشى القتلة والسفاكون، هم غير جديرين بعبادته، غير خليقين أن يعرفوه، غير أحرياء أن يهتدوا بنوره
إن الخوف من الجن والسعالي لا يعلم فضيلة، ولا يحض على خير، أما الخوف من الله فيرفع الإنسانية إلى مثله الأعلى. . . إلى الكمال الذي لا يعرف الغرائز الدنيا
احذر يا بني أن تحسب عقلك أوسع من الدنيا أو أكبر من الله! إن الجديد الذي يكتشفه بنو الدنيا من أسرارها كل يوم حريٌ أن يقتلع من نفسك الغرور، ومن روحك الكفر، ومن قلبك الضلالة
آمن بالله يا بني ولا تكن لي خزياً بين يديه يوم القيامة!
هكذا كانت تجادلني أعز الأمهات يا صديقي، وهكذا كانت تنصح لي. . . فلما رأيت الأبالسة تولي وتغور في الجدران والنوافذ، ولما رأيت الحجرة المباركة تخلو إلا مني ومن الأم المحتضرة، خيل لي أن كل نصائحها تتردد في مسمعي، وخيل لي أنني أراها ألف ألف مرة وهي قائمة تصلي في هدأة الفجر، وعليها (غطفتها) الناصعة، وخيل لي أنني أسمعها وهي تدعو الله لي ولأخوتي، ولزوجها الراحل
ثم سكت المؤذن الجليل لحظة، ثم نادى:
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فوالله يا أخي لقد سمعت قلبي الذي أخذته رجفة هائلة يردد ما أذن به الشيخ بكري عليه رحمة الله