العامي يرجع إلى الواقع ويستملي منه وهذا العالم قد أغفل الواقع وقلد ما كان عليه الآباء والأجداد
هذا العامي يعلم أن قواعد الصنعة لا تعطي الصنعة، ولا يعطيها إلا تمرين المتعلم، وأخذه بنماذج كثيرة، وتكرير ذلك حتى يتقنها
وهذا العالم أغفل هذه الحقيقة وظن أن قواعد اللغة تكسب اللغة وأن قواعد البلاغة تكسب البلاغة فأخذ يبدأ فيها ويعيد، ويكرر ويكثر من التكرار، فأكسبهم ملكة في قواعد اللغة، ولم يكسبهم ملكة اللغة
سيهول هذا أقواماً ويرونه سخفاً من القول. وقياساً مع الفارق، ويقولون: إنك لم تعمل شيئاً سوى أن قست قياساً فقلت تعليم وتعليم، ولغة وصنعة، وكما أن الصنعة لا تكسب بالقواعد إنما تكسب بالعمل والتكرار كذلك لا تكسب اللغة العربية بالقواعد فحسب إنما تكسب بالعمل والتكرار والحفظ، والقياس لا يفيد اليقين، فطرق العلم مختلفة، فهذا يعلم من طريق، وذاك يعلم من طريق آخر، فالروائح تعلم بالشم، والطعوم تدرك بالذوق، والألوان تدرك بالبصر، فكما لا يصح أن يقال: إن الأحمر قد كان طريق العلم به البصر فيجب أن يكون الحامض طريق العلم به البصر كذلك لا يصح القياس الذي ذكرته، فلعل هناك فارقاً بين الصنعة واللغة يجعل أحكامهما مختلفة، فتكون الصنعة تكسب بالتكرار، وتكون اللغة تكسب بالقواعد، فالقياس لا يجدينا ولا ينفعنا، فلا بد أن تأتي بالبرهان لنصدق به، ولا نجد عنه معدي
وإني أعد القراء أن أجيء بالبرهان على أن اللغة كسائر الصنعات لا تكتسب بالقواعد، إنما تكسب بالحفظ والتكرار، وأن أدير الحديث على طرق إقناعية شتى حتى أفوز بإقناع أولي الأمر فنحل مشكلة من مشكلاتنا العديدة، لنفرغ لمشكلات أخرى.