والواقع أن هذه أعظم شجاعة بدت مني في حياتي، فالطفل لا يموت إلا بعد أن يتجلى تجلياً هو غاية في الفتون، فتكون حركاته وسكناته من الغرائب والعجائب، ويكون تحفة طريفة تحول البيت إلى فردوس من أجمل الفراديس، بحيث يقال في وصفه إنه كان أبن موت، وهذه عبارة مألوفة عند أهل الريف، وهي غاية في الصدق
وبقليل من التأمل نرى الطفل الذي يموت بعد سنة يكون استوفى من الحياة سنوات وسنوات، لأنه في عمره القصير يستوفي من حظوظ دنياه في المرح واللعب والابتهاج ما لا يستوفيه كبار المعمرين. وهنا تكون الفتنة الدامية، فذلك الطفل يعد أهله وعوداً لا تخطر في البال، فهو في إشاراته وعباراته يؤكد بأن سيكون أعظم العظماء في القديم والحديث
وفي أقصر من لمح البصر يختضره الموت، فتبقى له بوارق تذيب لفائف القلوب
ماذا أصنع والأطفال الذين ثكلتهم كانوا كذلك؟
قدرت أنهم عاشوا حتى شبعوا من العيش، والعيش تعب فليستريحوا آمنين
دفنت بيدي أطفالاً كانوا أعز علي من نفسي، ولكني لم أبك عليهم كما بكيت على أمي وأخي وأبي، لأنهم لا يطالبونني بالوفاء، فقد اختارهم الله إلى جواره قبل أن يعرفوا الفرق بين البر والعقوق
وما حاجة الأطفال إلى البكاء؟
ألا يكفي أن الله أنجاهم من مكاره العيش، في دنيا أتعبت الأنبياء؟
الدمع على الطفل الذاهب أغزر من الدمع على الكهل الذاهب، فما الذي فاتهم من حظوظ البكاء؟
بهذه السياسة فرضت على زوجتي أن تنسى الأطفال الذين فقدناهم في مصر الجديدة وفي سنتريس، فاكتفت واكتفيت بالشياطين الذين عاشوا، وهم أبناء لم تمنعهم الشيطنة من أن يكونوا غاية في أدب النفس وصفاء الروح
إذا راعى الابن واجبه نحو أبيه، فما يضره إن نسي الواجب في معاملة جميع الناس؟
أنا لم أفعل خيراً في حياتي أفضل من الأدب في معاملة أبي وأمي، وقد جازاني الله فجعلني في عصمة من دسائس السفهاء
الحجر الأول في بناء الوطن هو الأسرة، وأبنائي لا يحبونني متفضلين، وإنما يرون رجلاً