أن يعفيني أبي من مشاركته في عشائه المرموق، ولكنه لم يكن يتناول طعاماً بدون حضوري ولو كان تحفة عروس
من الذي أوحى إلى أبي ما غاب عن كبار المربين؟
كان أهلي يقولون إن الطفل يحتاج إلى تأسيس، وكانوا يرون أن الطفل المؤسس يعيش في قوة إلى آماد طوال
ثم دارت الأيام واستقللت عن أبي كل الاستقلال، فقد أكرمه الله بالعيش إلى أن يراني رجلاً له أهل وأبناء وأملاك، ومع هذا كان يراني ضيفه حين أزور سنتريس، ويبالغ في الكرم فلا يتركني لحسن الفهم في رعاية ضيوفي، وإنما يتقدم فيكرمهم بأسلوبه الجميل، أسلوب الرجل المفطور على السخاء الفضفاض
ولن أنسى أنه كان يناجي المسيو دي كومنين مناجاة الرفيق للرفيق، مع أن لغة التفاهم غير موجودة بأي شكل، فكان من ذلك دليل على أن الألسنة أقل إفصاحاً من القلوب
كان لي أب وكانت لي أم، وأنا اليوم يتيم كهل، واليتيم الكهل أعرف باليُتم، كما قال أخونا الأستاذ محمد الهراوي، طيب الله ثراه!
أما بعد فأنا لا أوصي باجترار الأحزان، ولا أدعو إلى أن نطيل البكاء على آبائنا وأمهاتنا، فذلك يؤذيهم في عالم الأرواح وإنما هي لوعة نزجيها كارهين لا طائعين، وهي على قسوتها دون ما يجب في تسجيل الوفاء
ثم ماذا؟ ثم يكون الحديث عما نفقد من أبنائنا، وأنا ذقت مرارة الثكل مرات، إلى أن لطف الله فأعفاني من ذلك العناء وسيتفضل جل شأنه فيرحم جفوني من دموع الثاكلين، لأنه أرحم الراحمين
ومن واجبي نحو قرائي أن أدلهم على المذهب الذي سلكته في ذلك الجحيم:
حين ذقت الثكل أول مرة رأيت له طعماً متفرداً بين طعوم الأحزان، رأيته يقلقل أضراسي ويكاد ينقلها من مكان إلى مكان، ورأيت تعزية المعزين تزيد أحزاني، فقررت أن لا يقام للطفل الميت مأتم ولا عزاء، وقرت أن لا أسمع بكاء أمه عليه، وأن لا يذكر اسمه في البيت، وأن يمضي إلى من وهبه ثم استرده بلا عويل ولا صياح
كنت أقول: هو لنا عند الله، فلنتركه ذخيرة تنفعنا يوم الحساب، إن كنا مؤمنين