وأنا الرجل الذي عرفه أبي، فلتحاربني الدنيا الغادرة إن كانت تطيق
لم أنسى يوماً أن أبي تعب في شبابه حتى شبع من التعب، ولم أنسى لحظة أن تكدير كهولته بسببي قد يكون إثماً موبقاً يكدر ما أرجو لحياتي من صفاء، ولهذا المعنى حرصت على أن يراني باسماً في كل وقت، وأن يراني غنياً عن الناس في جميع الأحايين، وهل يفتقر المؤمن إلى الناس؟
لم تكن الدنيا سمحت بأن تخلو حياتي من متاعب، ومع هذا أخفيت عنه جميع آلامي، فلم يتصورني إلا رجلاً خلت حياته من المصاعب والأهوال
كان سلوكي مع أبي سلوكاً هو الصورة المنشودة لأدب النفس، ولعل الله يتفضل فيتقبل دعواته الطيبات وهو يعاني مرض الموت، فما مات أب راضياً عن ابنه كما مات أبي وهو راضٍ عني
وهنا أتذكر أشياء تعد من الغرائب، أشياء متصلة بحياة أمي، فما تلك الأشياء؟
كانت أمي تفرح بالمرض أشد الفرح، لأنها كانت تؤمن بأن دعاء المرضى دعاء مستجاب، فكانت تقضي لياليها الأليمة في دعاء الله بأن يجعلني من الموفقين. كانت تدعو الله وهي توقن أنه يسمع ويجيب، ولم يخطر في بالها أبداً شيء مما يخطر في بال أهل الارتياب
كانت أمي سيدة مؤمنة، وكان إيمانها موروثاً عن أمها وأبيها، وكانا زوجين قانتين لا يعرفان غير فاطر الأرض والسماء
ومع أن المألوف في كل أرض أن الأم لا تستريح كثيراً إلى زوجة ابنها، فقد كانت أمي تحبني في زوجتي، وتصفها بأجمل الأوصاف، وتخصها بكثير من الدعوات، بحيث عُدَّ سلوكها من أندر ما يقع في حياة النساء
وكذلك كان حال جدي لأمي، فقد كان حين يزور دارنا بعد صلاة العيد يبدأ بالسؤال عن زوجات أبي، سؤال الوفاء لا سؤال الرياء، ثم يدعو الله أن يديم عليهن نعمة العافية والقبول
أما أمر أبي في تربيتي، فكان عجباً من العجب، كان لا يتناول طعاماً بدون أن أشاركه فيه، ولو كان طعاماً أعدته له إحدى الزوجات المحظيات
كنت أدخل الدار مع الليل، والشواء يفوح والنوم في جفوني، فآوي إلى مضجعي وأنا أرجو