أتدري لم هذا؟ إن الأول زاول اللغة العربية عملاً، وحفظ أدواره في الروايات، وألقاها ومرن على ذلك فاكتسب ملكتها، فإن تكلم بعد صدر عن الملكة فأجاد؛ أما الثاني فعلم قواعد النحو والصرف والبلاغة، ولم يزاول اللغة حفظاً وعملاً، فلم يكتسب ملكتها فكان هذا القصور المعيب
أجلست مع بعض العامة الذين يكثرون من قراءة الجرائد والروايات فرأيته يقيم لسانه بالعربية أكثر من ذلك النحوي الذي جعل همه في القواعد والقوانين
ولعلك رأيت بعض من لا يعرفون علم العروض والقافية، ولا يعرفون البحور وأوزانها، ولا الخبن والطي، إذا سمع بيتاً مكسوراً أدرك عيبه بمجرد سماعه، وإذا سمع بيتاً صحيحاً أدرك صحته كذلك؛ ولعلك رأيت بعض من يعرفون هذه العلوم لا يهتدون لعيب البيت أو صحته إلا إذا أخذوا يتعرفون من أي بحر هو ويجرونه على أوزانه. إن ذلك لأن الأول تربى عنده مقياس ذهني لأوزان الشعر من كثرة قراءته وحفظه، فإذا سمع شعراً اختل عن هذه المقاييس أدرك ذلك بذوقه، والآخر لم ترب عنده هذه المقاييس بل شغل بقواعد الشعر عن حفظه وقراءته والقواعد لا تربي الملكة
أن كثيراً من علماء العروض لو حاولوا نظم بيت من الشعر أعجزهم؛ وإن كثيراً ممن لا يعرفون هذا العلم يأتي لهم الشعر طيعاً منقاداً - والسر ما قلناه وكررناه من أمر الملكة والتكرار
سلوا كل كاتب يحوك الوشى، وينفث السحر، وكل شاعر يقول الشعر، وينظم الدر، في مصر وفي بلاد الشرق، بماذا نلتم هذه المنزلة ووصلتم إلى هذه الدرجة من البيان يجيبوك بأنهم لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالقراءة الكثيرة، والحفظ الكثير ومزاولة الكتابة والحديث
إن قوانين الوجود صارمة نافذة أبدية فمن سايرها وعمل على مقتضاها انتفع بها وسار على ضوئها إلى التوفيق، ومن جهلها لحقه الضرر بهذا الجهل، ومن أراد التخلص منها، وحاول أن يخضعها لإرادته عني نفسه فيما لا يطاوعه ولا يجد إليه سبيلاً