وحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية؛ فللأشعرية قول، وللمعتزلة، وللحنابلة مذهب. وثم فرق أخرى لها آراء مختلفة. ولا نطيل بذكر هذه الآراء فليرجع إليها في مظانها من يريد الوقوف عليها، وأنت لو تدبرتها كلها لألفيتها مما لا يسكن إليه العقل، ولا يطمئن به القلب. وقد فزعت إلى الرافعي وهو من أئمة البلاغة لعلي أجد عنده شيئاً يثلج الصدر، ولكنه على ما أتى من قول بليغ، فإن النفس لا يزال فيها من هذا الأمر شيء
ولعلنا نجد من أئمة الدين، أو من غيرهم من العلماء والمحققين، من يتولى بالبحث والتحقيق هذا الأمر الدقيق الذي يهم المسلمين جميعاً، حتى نصل فيه إلى مقطع تسكن إليه النفوس القلقة، وتستقر عنده العقول الحائرة
وهذا هو جواب الرافعي رحمه الله
يا أبا رية: السلام عليك، وبعد. فإنك سألتني مسائل دقيقة، تحتاج إلى الفكر وبسط الجواب وهذا ما لا قبل لي به فأنا مريض الدماغ حقيقة، ولكني أجيبك بما قل ودل
أما سؤالك فقد كثر الكلام في جوابه، والذي أراه أنا أن ألفاظ القرآن منزلة بحروفها ونسقها وإلا بطل الإعجاز، لأن الإعجاز لا يكون إنسانياً، وقد كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فتعتريه حالة روحية وردت صفتها في البخاري وغيره، وبها ينزع من عالم الحس فتتجرد نفسه الشريفة، فيرى الملك ويسمعه ويأخذ عنه، ثم يفيق فيؤدي ما أوحى إليه بحروفه، وهي حالة كانت شديدة عليه ولذلك تسمى (برحاء الوحي)، وكان جسمه صلى الله عليه وسلم يثقل فيها جداً ويتصبب عرقاً، إلى آخر ما ورد في صفتها مما يدل على ما تلقى نفسه الشريفة في تجردها وما يلقى الجسم في هذا التجرد، ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن يكون للإنسان وعي وفكر يؤلف به نسقاً في الكلام كما توهمت، لأن هذا التأليف من أفعال المخ، ولو أمكن أن تكون الألفاظ من عنده صلى الله عليه وسلم لظهر فيها أسلوبه قليلاً أو كثيرا؛ ولما كان في حاجة إلى نزول القرآن آية فآيتين إلى عشر، بل كان يحدث عنه المعنى الذي ينطبع في روحه جمله واحدة، وفوق ذلك فهذه حالة تستدعي وقوع التفاوت في