للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كن مع الله تر الله معك

صديقي العزيز

هل تذكر حديثنا منذ أيام ونحن نقطع الطريق في وهج الظهيرة من وزارة المعارف إلى ميدان باب الحديد، مع أننا نملك اجتياز المسافة بسيارة لا تكلفنا غير دراهم معدودات؟

هل تذكر أني قلت لك إني أحب أن أرى نعم الله على عباده ليزداد إيماني؟

وماذا رأينا في ذلك الطريق؟

أنت لم تر شيئاً، لأنك كنت مشغولاً بمحادثتي في شؤون لا ينقلها سمعي إلى قلبي، وسيطول بلاؤك بتلك الشؤون، فهي لا تخرج عن منصبك وراتبك، ولا تزيد عن شكواك من نظام الترقيات والعلاوات، يا عبد الوظيفة ويا عبد التراب!

أما أنا فقد رأيت ورأيت، فهل تحب أن تعرف بعض ما رأيت؟

لقد اقتنعت بأن الله لم يجعل القاهرة مدينة البؤس، كما يقول بعض الناس، فمن السهل أن ترى العيون ألوفا من المنعمين بالثروة والعافية والجمال

في كل لحظة يقع النظر على وجه أصبح، ويقع القلب على روح لطيف

وفي كل خطوة ترى طلائع من طلاب الرزق الحلال، ترى عمالاً يكدحون ليعودوا إلى أهليهم في المساء وجيوبهم عامرة وأنفسهم في ابتهاج

وهل قامت تلك البنايات الشامخات إلا بسواعد أولئك الفتيان الضاحكين برغم شظف العيش وخشونة الثياب؟

إن منظر ذلك البواب سرني، فقد أسند رأسه إلى الباب وغفا غفوة مريحة لن تظفر بمثلها في سريرك، يا مشغولاً بحظك الفضفاض من دنياك

ومن العجب العجاب أن ترى رجلاً يقرأ في مصحف وهو على كيس أحد المخازن التجارية، كأنه لم يسمع أن بدعة العصر توجب نسيان المصاحف والأناجيل!

وفي الشارع رأينا جنوداً يحتضنون زجاجات البيرة، وبالقرب منهم رأينا عمالاً يحتضنون القلل القناوية، فأين السعداء من أولئك وهؤلاء؟

صاحب الزجاجة يبتلعها ابتلاعاً قبل أن يحل عليه أمر الحاكم العسكري بانتهاء الوقت المحدد للشراب، وصاحب القلة يمتص منها رشفة بعد رشفة وهو في أمان

<<  <  ج:
ص:  >  >>