للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً.

فربا الرجل ربوة واصفر وجهه؛ فقال ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشحر وكل شيء ليس فيه روح) فلا عجب إذا بلغت الزخارف الهندسية على يديهم ذروة الإجادة، وأصبحت الزخارف النباتية آية في الإبداع والإتقان وإن كانت بعيدة عن تمثيل الطبيعة تمثيلاً صحيحاً في معظم الأحيان، شأنها في ذلك شأن الزخارف الحيوانية التي ترخص في رسمها بعض الفنانين. على أن هذا البعد عن الطبيعة لم يكن نتيجة لضعف في الملاحظة أو نقص في المقدرة بل هو، في أغلب الظن، مقصود لذاته، ولعله ناشئ عن تلك العقيدة التي يؤمن بها كل مسلم أشد الإيمان: ذلك أن البقاء لله وحده، وأن العالم بمن فيه وما فيه مآله إلى الزوال (كل شيء هالك إلا وجهه) (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وليس من اللائق وهذه العقيدة منقوشة في أذهان المسلمين جميعاً أن يخلد رجال الفن منهم بأعمالهم الفنية ما كتب الله عليه الفناء، لذلك نجدهم لم يعنوا بتصوير الشخصيات العظيمة في لوحات كبيرة أو تماثيل ضخمة تبقى على الدهر، أو تمثيل جمال الطبيعة بالنقل عنها نقلاً صحيحاً، بل يأخذون من عناصرها ما يرون، ويهذبون فيه ما شاءت لهم ميولهم ومواهبهم الفنية، ثم يكونون من هذه العناصر المهذبة زخرفة لا تمت إلى الطبيعة بصلة، قوامها أغصان نباتية متشابكة يتفرع بعضها من بعض، وأوراق أشجار مختلفة يخرج بعضها من بعض، وأزهار وفواكه تنبت من الأوراق أحياناً ومن الأغصان أحياناً أخرى، وهي في مجموعها تعطي منظراً ترتاح له العين ويسر به الفؤاد

ويعنى الفنان المسلم عناية واضحة بالتفاصيل الدقيقة، ويميل - بل ويسرف في هذا الميل أحياناً - إلى عدم ترك فراغ ملحوظ بين الوحدات الزخرفية، وربما كان مسوقاً إلى ذلك بفكرة كامنة في نفسه تجعله حريصاً على أن يخرج زخرفته بحيث لا يستقر النظر فيها على شيء معين يترك في الذهن صورة واضحة تحتل بؤرة الشعور. أما هذه الفكرة فهي رغبته في الحيلولة بين نفسه وبين الغرور الذي يملك الفنان أحياناً عند ما يتأمل في أثره الفني فيراه واضح المعالم والخطوط، ويدرك أنه استطاع أن يرسم بريشته ما يضاهي به

<<  <  ج:
ص:  >  >>