مبهمة؛ فهم لم يقولوا - ولم يريدوا أن يقولوا - إن الظاهرات الاجتماعية تسير في تسلسل وارتباط وحسب علاقات علية - علاقة معلول بعلته - وأن تلك العلاقات محددة ثابتة لا تتغير كما هو الحال في العلوم الطبيعية. فكانوا يرون أن الإنسانية يمكن أن تنقلب من حال إلى حال بدون استثناء
ولكن في القرن التاسع عشر ظهر فهم جديد على يد سان سيمون أولاً ثم - على الخصوص - على يد أوجست كونت: فقد استعرض كونت في كتابه المعروف (دروس في الفلسفة الوضعية جميع العلوم في عصره، فرأى أنها تقوم على أن الظاهرات التي تعالجها تربطها علاقات ضرورية، وأنها ترتكز على مبدأ الجبرية فذهب إلى أن ذلك المبدأ الذي يتحقق في جميع ممالك الطبيعة من أول مملكة الرياضيات، حتى مملكة الحياة يجب أيضاً أن يتحقق في المملكة الاجتماعية، وبذلك ذهب المفكرون في أيامه عن النظر إلى المجتمعات كنوع من لمادة المائعة المطاطة التي يمكن للإنسان تشكيلها كيفما أراد؛ وإنما هي حقائق ووقائع لا يمكن تغيرها إلا بمقتضى القوانين التي تسيطر عليها وتوجهها. وعليه فإن نظم الأمم المختلفة مثلاً لا يمكن اعتبارها نتاجاً لإرادة الأمراء والحكام والمشرعين بل على أنها نتائج ضرورية لعلل معينة. فنحن نجد أنفسنا إذن أمام نظام للأشياء ثابت معين، وأمام علم يقوم لوصف هذا النظام وتفسيره وتبيين خصائصه وإظهار أي العلل تعتمد عليها هذه الخصائص. وهذا العلم نظري بحت ليس للجانب العملي فيه أي دخل؛ وهو علم الاجتماع. وكان أوجست كونت يسميه أولا بالفيزيقا الاجتماعية كما يبين العلاقات التي تربطه ببقية العلوم الأخرى
ولكن، لا يعني ذلك أن المجتمع خاضع لنوع من القدرية لا يمكن الإفلات منها، وأن الناس لا يمكنهم أن يعدلوا من مجتمعهم وبذلك لا يمكنهم أن يؤثروا قط في تاريخ بلادهم؟ الواقع أن لا؛ فإن العلوم الوضعية كلها تخضع لمبدأ الجبرية دون أن يمنع ذلك من وجود تغيرات في كل منها: فعلم الطبيعة مثلاً لا ينكر وجود تغيرات في ميدانه الخاص، ولكن تلك التغيرات تكون حسب قوانين موضوعه الخاصة. وعلم الاجتماع قبل كل شيء أعقد العلوم الوضعية كلها، وإذن فمجال التغيرات فيه أوسع من أي منها. وهو لا ينكر وجود تغيرات وتعديلات في المجتمع ولكن الذي ينكره هو ألا تكون هذه التعديلات متمشية مع طبيعة