لا بأس! ولكن ابحث لك عن معلم غيري يصحح لك كراستين كاملتين في موضوع واحد. فقلت. . . وهي قولة تفيض كبراً ويكاد يخنقها الغرور: على كل حال لقد كتبت في الموضوع الذي كلفتنا به، ولست أرى أن ما كتبت في حاجة إلى تصحيح (!!)
والمدهش أن الزيات - بعد كل هذه الوقاحة - لم يزدد لي إلا محبة، ولم يجزني إلا كل مودة، ولم يقابلني إلا بكل رعاية. . . مع أنني انتهزت فرصة تفتيش محمد بك الخضري على المدرسة بعد ذلك بأيام قلائل، وقدمت له الكراستين مباهياً. . . فشجعني الرجل عليه رحمة الله بكلمات، ووعدني بقراءة موضوعي الطويل، وبرد الكراستين حين يفرغ منهما. وأكبر ظني أنه لم يفتحهما خارج المدرسة، لأنني فقدتهما إلى الأبد. . . فيا ترى! ماذا كنت قد كتبت فيهما؟!
هذا بعض ما كان يهجس في روعي من ذكريات أستاذي رئيس التحرير الذي كنت أجلس على مكتبه مشتغلاً بماضي معه، عن الموضوع الذي يجب أن أفرغ من كتابته في نصف ساعة، وكان النصف الآخر قد مضى في استعراض هذه الذكريات. . .
ثم دخل أخي محمد فجأة لأمر ما من أمور الإدارة، فلما رأى الصحيفة بيضاء هذه المرة أيضاً، كآخر عهده بها، أربد وجهه، وشحب شحوباً شديداً. وكنت قد أخذت أحلم أحلاما أخرى من نوع آخر، غير أحلامي بالذكريات السالفة، فقد انتقل خيالي السابح إلى أدب الأستاذ الزيات شكلا وموضوعاً، وجعلت أستعرض (فرتر) و (رفائيل) استعراضاً هادئا. فها هو ذا (فرتر) يقبض على مسدسه لينتحر. . . وها هو ذا الدم يتفجر من جبينه بعد أن دوت تلك الرصاصة الطائشة. . . وهاأنذا أبكي - يوم قرأت فرتر لأول مرة بالطبع - متأثراً أشد التأثر. . . ثم ها هي ذي جوليا، حبيبة رفائيل، تموت مما بها من مرض، وهاأنذا أتلو على رفاتها قصيدة لإمارتين: البحيرة، ثم قصيدته: الوحدة، بقلم الأستاذ الزيات. . . وبعد ذلك أتذكر وصف الفتى رفائيل، ذلك الوصف الرائع في العربية بقلم الزيات، وفي الفرنسية بقلم لإمارتين، فأزداد انصرافاً عن الموضوع الضائع الذي لم أستطع أن أهتدي إليه بعد. . .
ونظرت فرأيت أخي محمداً ما يزال واقفاً أمامي. فقلت له: ما هذه الضجة التي أسمعها في الشارع. . .؟