لأنها تكون قصيرة النفس ولا تنهض بأعباء الحوار في الدرامة، ثم هي لا تسعف الشاعر في أداء المعاني الطويلة في الملحمة؛ وكذلك فضلوه على الأبحر التي تتألف من اثنتي عشر مقطعاً وعللوا ذلك بحاجة تلك الأبحر إلى القافية لتتم الموسيقى ويستقيم النغم ويسلم الميزان
وقد أثار الشاعر الأمريكي لنجفلو على هذا التقليد، فنظم قصته البديعة من أطول بحر عرفه العروض الإنجليزي (ستة عشر مقطعاً!)، كما أنشأ منظومته الطويلة الجميلة من أقصر بحور هذا العروض (ثمانية مقاطع فقط!)
وقد نجح لنجفلو في إفانجلين نجاحاً عظيما. ولن أنسى قط تلك الدموع التي ذرفتها بعد قراءة تلك المأساة الغرامية الباكية المليئة بالعواطف الجياشة والخيال الخصب والوصف الشائق الأخاذ
أما في هياراثا، فقد فشل الشاعر العظيم وانحط عن الأفق السامي الذي ارتفع إليه في درته السالفة. على أنني أحسب أن تفاهة الموضوع هي التي ذهبت بروعة القصة، وليس البحر القصير الذي يشبه المتدارك في العروض العربي، وللمتدارك موسيقاه الحلوة التي لا تنسى ومنه
(اشتدي أزمة تنفرجي) و (يا ليل الصب متى غده)
وبفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً وهو يتكون من اثنتي عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)
ولم يزل الشعر المرسل يتأرجح بعد شكسبير بين العلو والسفل حتى جاء ملتون العظيم فنظم به طرفته الخالدة (الفردوس المفقود) التي وصف فيها الحرب بين عيسى (الخير) وبين الشيطان (الشر)، وكيف تم الفوز للمسيح آخر الأمر. . . تلك الطرفة التي بلغ فيها الشعر المرسل قمة الإجادة. . . ومن العجب أن يفشل ملتون في منظومته الثانية (الفردوس المعاد) في المحافظة على ديباجته التي بلغها في الفردوس المفقود، ولعل للسن حكمه في هذا الانتكاس
ومما يؤثر أن ملتون استطاع أن يتجنب كثيراً من العلل التي كان يتورط فيها شعراء