للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

علاج

وإني أقول في جواب هذه الشبهة أن ذلك يبين عسر اكتساب ملكة العربية لا تعذره، والمشقة لا الاستحالة؛ فإنه لو استحال تكوين ملكة العربية مع سبق ملكة العامية لما وقع لأحد. وكيف وقد وقع للكثير من رجال اللغة والأدب؟ حقاً إن هذا دليل على التعسر لا على التعذر بدليل أننا نجد خلافه من نفوسنا وخلطائنا؛ فكثير منا قد سبقت إليه في صباه ملكة العامية، ثم عنى بكسب ملكة اللغة العربية بالحفظ والمرانة فاكتسبها، ولم تمنعه الملكة السابقة أن يكتسب الملكة اللاحقة؛ بل إني لأزعم أنه لا يكتب الكتاب، ولا يشعر الشعراء، ولا يخطب الخطباء باللغة العربية إلا بفضل الملكة التي اكتسبوها من القراء والحفظ والاعتياد والتي قاومت ملكات العامية في نفوسهم فغلبتها وظهرت عليها لا بفضل القواعد وحدها

لقد قام الدليل على أن لا سبيل إلى اكتساب اللغة إلا هذا السبيل وهو أن اللغة ملكة والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، فإذا تعين هذا السبيل بالدليل فلا معنى لتصيد الشبه من هنا ومن هنا للهروب مما أوجبه الدليل وعينته الحجة. وهل توقفت المدارس الأجنبية عن تعليم تلاميذها لغة غير لغتهم بطريق الحفظ والحديث بحجة أن لغتهم صارت ملكة فيهم فلا يمكن أن يكتسبوا ملكة لغة أخرى. والواقع أن من الناس من يجيد لغات كثيرة وكلها ملكات فيه، وقد اكتسبها بطريق المحادثة والحفظ، ولم تزاحم ملكة لغة ملكة لغة أخرى عنده، وإن كانت ملكة بعض اللغات عنده أقوى من بعض فذلك لا يعنينا لأننا في أصل تحصيل الملكة لا في جودتها والمفاضلة بين الملكات بعضها وبعض. إن علماء الأخلاق قد جزموا بإمكان تغيير الأخلاق وقالوا إنه يمكن أن يكون الجبان شجاعاً، والبخيل كريماً والشره عفيفاً، والأخلاق ملكات والخلق الذميم تحريف للخلق الفاضل، ورأوا أن التكرار كفيل بالتغيير، وما على الجبان إلا أن يتشجع ويعمل أعمال الشجعان، وما على البخيل إلا أن يتسخى ويعمل أعمال الأسخياء، ليكتسب الخلق الجديد، ويتخلى عن الخلق القديم

فإذا كانوا قد جزموا بذلك في الأخلاق غير متحفظين ولا مترددين فما أحرانا أن نجزم به في اللغة ولا نتحفظ ولا نتردد

وليس ما يتصيدونه من شبه مما يشفع لنا أن نترك الطريق الطبيعي لتعليم اللغة ونسلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>