ليس الآن، عندما تهدأ نفسي من جنون الشباب، عندما يأخذ قلبي في النظر العام الشامل، ففي ذلك الوقت استطيع أن ارضي نفسي وأرضي غيري، أما الآن فلا. وإن الجمهور ليطلب إلى الشاعر بكاء ونواحا، ويحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ما اكثر شعراء البكاء في بلادنا، أما أنا فلم يبق في عيني دمع انضح به شهوات الناس. أني غدوت كشبح متحرك يراه الناس فيحسبون فيه القوة والجبروت، وأبصره أنا على وجه لا يرونه به. ماذا تبقى يا صاحبي، أنني أرى الناس، بل كثيرة الشعراء في واد، وأنا في واد، إنهم يتكلمون عن السماء وأنا اكلم عن الارض، أنهم يتكلمون على العالم باسره، وانا لا أتتكلم إلا عن (حديقتي). فإذا شعرت بهذا انصرفت إلى ألغازي التي حبرتها، وأوهامي التي نسجتها وصبغتها بألوان الجمال والقوة والحكمة، فتعينني في بلواي، بل كيف اقذف بها إلى الناس. وهيهات أن تلذ الناس، ما أنا طامح في رضاهم، ولا أنا خائف من شرهم، خير لي أن أعيش في حديقتي، أبذر وأقبر وأنتج واقتل، حتى لا تستطيع اليد قتلا، وحتى الضعف اليد عن حفر القبور.
أرأيت يا دكتور كيف أبعد عن الغرض الذي أسعى إليه، بل أرأيت كيف أسرف في الشطط. فقد أرهقتك وأرهقت القراء بهذر من القول لا طائل تحته، وإنما هي أقوال تلوح لذهني فاعلق بها على الرؤى التي تلوح لعيني، ما كان أجدرني يا دكتور إلا اكتب ولا أثير حفيضتك وإلا اضطر نفسي إلى الجواب، ربما كنت بعيداً كل البعد عن مذهبي في الشعر، فأنت تنحو في شعرك ناحية تسميها إنسانية عالمية، وأنا أرى أن الحياة قبل التفلسف، وعلينا أن نعمل للسير قبل الكمال، وأن نعمل للحياة قبل الجمال، وأن نعمل للحركة قبل الفن - إن صح أن هناك فناً - وأن على الشعراء واجباً نحو وطنهم وأمتهم، بل إن عليهم واجباً نحو أنفسهم، ماذا تستطيع النفس المقيدة الملجمة أن تنتج، ربما فهمت قولي يا دكتور وأولته على أني معك على مذهبك. كلا: فأنا لا أرى الشعر كتاريخ لنفس الإنسان: إنني أرى إن الشعر لا يرسم إلا الخطوط الأساسية من نفس الإنسانية جمعاء، وبقية الفنون والعلوم تلبس هذه الخطوط أثواباً فضفاضة من المادة والروح.
إنني استغفر الله يا دكتور، فما أردت سوءاً، وما كنت مغرضاً ولا ناقماً، لكنني من خدام الحقيقة. أريد أن اقبس من نورها ولو نالني من الناس ما اكره، أنا لا أريد أن أبني لنفسي