أظن أن صاحب الملل والنحل لو امتد به الأجل ما قال قولته المشهورة (هذا شيء لا يعجز عنه إنسان) إلا في شعر يشابه شعرك. لا عجب يا صاحبي هذا شان البحر، فالبحر لا يقذف بالدر دائما، ولكنه يقذف بالزبد في كل حركة، والإنتاج الفني الذي هو التعبير الراقي عن احساسات النفس لا يأتي عفو الخاطر، فإذا تحدثت إلى سيدي الشاعر عن اللغة أفلا يجدر بي أن أحدثه عن روح الشعر وعن المناسبة الشعرية. وعن الظروف التي تستدعي قرض الشعر.
لا أكتمك يا دكتور أني ممن يلقون بنفسهم بينكم معشر الشعراء، في المتن أو في الهامش، لا أدري، لكني من جماعتكم على كل حال شئتم أو أبيتم، وما أكثر أمثالي بين الشعراء، يكاد أحدهم يبعد عن محراق الفلك الشعري زهاء مائة كيلومتر، ويزعم بعد ذلك أنه من كبار الشعراء. أعذرني فأنا أناني مثلك، وأنا عندما أحدثك عن أنانيتي يجدر بي أن أشرح لك شيئاً من ذات نفسي كشاعر لا كنا قد. . . الموضوعات التي تستدعيني إلى النظم كثيرة يا دكتور، ونفسي دائمة الاضطراب والجموح. دائمة الحركة والثورة، هي متمردة متقلبة، ترى في كل ساعة موضوعات للكتابة، لكنني أكبح جماحها. أحول هذا الشعور الحاد إلى اللاشعوري ليتم نضجه، فإذا فرغت منه انصرفت إلى غيره، ففعلت به ما فعلت بالأول، وأنا بين هذا وذاك أمزج بين الشعور الهادئ المتزن وبين الشعور الحاد الجامح ثم اكتب. وبعد أن أنهي عملي ادفعه واهمله، واشعر ان عبئا قد أزيح عن كاهلي، أقبره لانه لم ينضج، تمر عليه أيام كثيرة أتناوله فيها بالتبديل والتغيير والمسخ، او بالتهذيب والترتيب والتنسيق، ولعلي ما أتممت شيئاً حتى الآن، فترضى عنه نفسي، وكيف أشرح نفسي للناس، وهم اجهل من ان يفهموها على وجهها، وكيف أبرز للناس وما أنا ممن يستطيعون التعبير عن مصائبهم وآلامهم وثورتهم، حسبي أنني لم أعرض شعوري فكيف اعبر عن مشاعر الناس، انهم يطلبون رعداً وبرقاً، وهم على حق فيما يطلبون، فهناك وطن يقتسم، وهناك بلاد يحتلها العدو والغريب، وهناك شرف صار إلى الرغام، وهناك مجد قد أفل، وهناك مجد الأمس وبؤس اليوم، وتاج الاجداد، وقبر الاحفاد، وحق للشاعر أن يرعد ويبرق، وأن يدفع الغمام الساجي المدلهم ليمطر، أما أنا فأني سائر في طريقي، وأرجوا أن أصل إلى ما اصبوا إليه، سأرعد وسأبرق، وسأنفخ في الرمم وسأصيح بالموتى ولكن. . .