هي سبب هذا البطء لتحكمها في تفكير الشاعر تحكماً سخيفاً مضنياً ينتهي إلى إجهاد قريحته وتجشيمها ما لا تطيق، وتكون النتيجة المحتومة التي لا مفر منها واحدة من اثنتين: فإما أن تعطينا هذه القريحة المجهدة المتعبة شعراً مجهداً متعباً، وإما أن يؤدي هذا الإجهاد إلى موت القريحة نفسها وانصرافها عن هذا الشعر المضني السخيف الذي لا خير فيه إلا تلك الموسيقى الكاملة وإلا الطنين والرنين
لذلك نرجح أن نظم الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة كان محاولة للتخلص من ربقة القافية المتشاكلة المملة التي تتحكم في معظم الأحوال في كل ما يريد أن يقوله الشاعر وفي كل ما يفكر فيه، وفي كل ما يزخر فيه خاطره من خوالج، تلك القافية التي لا شبيه لها إلا في الشعر العربي
ولذلك أيضاً نجزم بأن القافية المتشاكلة المملة هذه، كانت السبب في حرمان الأدب العربي أو الشعر العربي على وجه التحديد من الملحمة والقصة الطويلة المنظومة، ثم من الدرامة وذلك لأن أثرها في توجيه تفكير الشاعر يكون أقصى من المنظومات الطويلة التي تحتاج إلى المرونة والتدفق ورقة التسلسل وعدم الإرهاق بالاطراد السمج الذي يقتضي حشد خمسمائة أو تسعمائة أو ألف لفظة متفقة الوزن وموحدة الحرف الأخير لمنظومة تتألف من مثل هذا العدد من الأبيات
لقد تعاظم هذا الحظر الشعراء الأندلسيين، كما تعاظمهم كذلك أن تظل ثقافتهم الشعرية ذليلة لعروض الشعر المشرقي؛ وتعاظمهم أيضاً أن يسمعوا إلى هذه المنظومات الرقيقة المشرقة التي يهتف بها شعراء الأسبان في غرناطة وقشتالة وطليطلة وغيرها من أمهات المدن الإسبانية، وأن يظلوا هم عاكفين على قوافي المهلهل والسليك والطرماح ومن إليهم من شعراء الجزيرة العربية منذ جاهليتها الأولى، فداروا مع الزمان الذي استدار، وقلدوا الأغاريد الجديدة التي سمعوا، فأمدوا الشعر العربي بتلك الموشحات الرائعة التي كانت خطوة بارعة في سبيل التخلص من القافية المطردة التي ما زال شعراؤنا أو معظمهم ينتصرون لها ولا يرون التخلص من أصفادها مع الأسف الشديد
قرأت في أحد كتب المستشرقين أن أدباءنا القدامى، أي أدباء العرب، الذين لم يستطيعوا أن يقرضوا الشعر اكتفوا بأن يسجعوا النثر، وعلل الكاتب هذه الظاهرة بتحكم سلطان القافية