وقد أعربت عن هذا الرأي في مقدمتي للجزء الثاني من ديوان زميلنا المازني، فقلت:
(. . . رأي القراء بالأمس في ديوان شكري مثالا من القوافي المرسلة والمزدوجة والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهيئ المكان لاستقبال المذهب الجديد، إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية وشعراء الوصف وشعراء التمثيل، ثم لا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي لا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان، فتألفها بعد حين وتجتزئ بموسيقية الوزن عن موسيقية القافية الواحدة
(وما كانت العرب تنكر القافية المرسلة كما نتوهم، فقد كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية كما في قول الشاعر:
ألا هل ترى إن لم تكن أم مالك ... بملك يدي إن الكفاء قليل
رأي من رفيقيه جفاء وغلظة ... إذا قام يبتاع القلوص ذميم
فقال أقلا واتركا الرحل إنني ... بمهلكة والعاقبات تدور
فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جمل رخو الملاط نجيب)
إلى آخر الشواهد التي أتيت بها في تلك المقدمة
وكنت أحسب يوم كتبت هذه المقدمة أن المهلة لا تطول إلا ريثما تنتشر القصائد المرسلة في الصحف والدواوين حتى تسوغ في الآذان كما تسوغ القصائد المقفاة، وإنها مهلة سنوات عشر أو عشرين سنة على الأكثر ثم نستغني عن القافية حيث نريد الاستغناء عنها في الملاحم والمطولات أو في المعاني الروحية التي لا تتوقف على الإيقاع
ولكني أراني اليوم وقد انقضت ثلاثون سنة على كتابة تلك المقدمة ولا يزال اختلاف القافية بين البيت والبيت يقبض سمعي عن الاسترسال في متعة السماع، ويفقدني لذة القراءة الشعرية والقراءة النثرية على السواء. لأن القصيدة المرسلة عندي لا تطربنا