بالموسيقية الشعرية ولا تطربنا بالبلاغة المنثورة التي نتابعها ونحن ساهون عن القافية غير مترقبين لها من موقع إلى موقع ومن وقفة إلى وقفة
والظاهر أن سليقة الشعر العربي تنفر من إلغاء القافية كل الإلغاء حتى في الأبيات التي تحررت منها بعض التحرير
فالأبيات الأربعة التي أتينا بها آنفاً قد اختلف فيها حرف الروي بين اللام والميم والراء والباء، ولكن الحركة لم تختلف بين جميع الأبيات، بل لزمت الضم وفيها جميعاً وهي حركة تشبه الحرف في الأذن وإن لم تشبهه في أحكام العروضيين والنحاة
والأمر كما نحسه في حكم الأذن يتفاوت بين مراتب ثلاث من الألفة والارتياح إلى السماع
فالقافية تطرب حين تأتي في مكانها المتوقع
وإهمال القافية يصدم السمع بخلاف ما ينتظر حين يفاجأ بالنغمة التي تشذ عن النغمة السابقة
والمرتبة التي تتوسط بينهما هي التي لا تطرب ولا تصدم، بل تلاقي السمع بين بين لا إلى التشوق ولا إلى النفور
فانتظام القافية متعة موسيقية تخف إليها الآذان
وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه ويلوي به لياً يقبضه ويؤذيه
إنما التوسط بين المتعة والإيذاء هو ملاحظة القافية في مقطوعة بعد مقطوعة تتألف من جملة أبيات على استواء في الوزن والعدد، أو هو ملاحظة الازدواج والتسميط وما إليهما من النغمات التي تتطلبها الآذان في مواقعها، ولو بعد فجوة وانقطاع
وربما زاد هذا التصرف في متعتنا الموسيقية بالقافية ولم ينقص منها إلى حد التوسط بين الطرب والإيذاء
فالأذن تمل النغمة الواحدة حين تتكرر عليها عشرات المرات في قصيدة واحدة. فإذا تجددت القافية على نمط منسوق ذهبت بالملل من التكرار ونشطت بالسمع إلى الإصغاء الطويل، ولو تمادى عدد الأبيات إلى المئات والألوف
لهذا لا نحسب أن السنين التي مضت منذ ابتداء التفكير في الشعر المرسل قد مضت على