فرُزقت ما لم يُرزقوا، ونطقت ما ... لم ينطقوا، ولحقت ما لم يلحقوا
فما عيب هذا المديح حتى يقال أنه دون سائر فنون البهاء في الطرافة والإبداع؟
وحب أن أذكر مثالاً ثالثاً يؤكد ما قصدت إليه من أن الجزالة في شعر البهاء طبع لا تطبع، لأن المقام يوجبها كل الإيجاب.
قال في مدح الملك الناصر يوسف:
ومذ كنت لم ترضَ النقيصةَ شيمتي ... ومثلُك يأباها لمثلي ويأنف
ولا أبتغي إلا إقامة حرمتي ... ولست بشيء غيرها أتأسف
ونفسي بحمد الله نفسٌ أبيةٌ ... فها هي لا تهفو ولا تتلهف
ولكنَّ أطفالاً صغاراً ونسوةً ... ولا أحدٌ غيري بهم يتلطف
أغار إذا هبّ النسيمُ عليهمُ ... وقلبي لهم من رحمة يترجّفُ
سروريُ أن يبدو عليهم تنعُّمٌ ... وحزنيُ أن يبدو عليهم تقشف
ذُخرت لهم لطف الإله ويوسفاً ... ووالله لا ضاعوا ويوسف يوسف
أكلِّف شعري حين أشكو مشقةً ... كأني أدعوه لما ليس يُؤْلَف
وقد كان معتاداً لكل تغزّلٍ ... تهيم به الألبابُ حسنا وتُشغف
يلوح عليه في التغزل رونقٌ ... ويظهر في الشكوى عليه تكلف
وما زال شعري فيه للروح راحةٌ ... وللقلب مُسلاةٌ واللهمْ مصرف
يناغيك فيه الظبي والَّظبي أحورٌ ... ويُلهيك فيه الغصن والغصن أهيف
شكوت وما الشكوى إليك مذلةٌ ... وإن كنت منها دائماً أتأنف
هذا أيضاً شعر جزل، وهو مع ذلك برئ من التكلف، وإن زعم الشاعر أنه تكلف!
وهل كان يمكن في مثل هذا المقام أن يرق على نحو ما يتفق له في شكوى الصدود؟
لكل مقام مقال، وقد كان البهاء من أعرف الناس بمقامات الكلام.
ولكن ما هي ذاتية البهاء؟ وما حياته في مصر والحجاز؟ وما مركزه بين معاصريه؟ وما وزنه الصحيح في تاريخ الشعر العربي؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في الحديث المقبل والله بالتوفيق كفيل
زكي مبارك