الشعري. ويضاف إلى ما تقدم طبعه ومزاجه، ولعله كون كالساعة التي صنعت لتدور على غرار خاص. فمثل هذا العندليب الذي لم يخلق إلا ليتغنى، ولا يحسن إلا أن يتغنى، ألا ينبغي أن تسنده يد في زحام هذه الحياة التي ينحى الناس فيها بعضهم بعضاً عن سبل العيش والكسب بالمناكب. (لعل في صدر ذلك المستضعف القصيدة الخالدة) فكيف نصرفه عن مناجاة وحيه إلى الدأب المستمر وراء اللقمة، وفيما نحفل بالعندليب فنقتنيه ونتخير له القفص المزدان، ونتقدم إليه بالحب الخاص، ونقيه عاديات الجوارح، ونشفق عليه حتى من عوارض الطبيعة، وشاعرنا الإنسان العبقري في زوايا الإهمال ومطارح الإغفال!. . .
هذا ما كان يقوله دوفيني في عهد ازدهار دولة الأدب الخيالي، وهو عهد لم يطل؛ فقد ألح عليه أمثال فلوبير بالمذهب الحقيقي (ريالزم) وزولا بالمذهب الطبيعي (ناتوراليزم) فتوارى؛ بل لقد أفرد زولا لأمثال تواليف دوفيني كتاباً في النقد اسمه المذهب الطبيعي في المسرح (لوناتوراليزم أو تياتر) تناول فيه في جملة ما تناول، رواية شاترتون ومقدمتها بالذات وأبى على دوفيني وصفه للشاعر واستنكره وسخر منه. وجلي أن الناقد اميل زولا لم ينظر إلى الموضوع إلا بمنظاره الخاص، ولم ققسه إلا بمقياسه الذهبي فلندع له رأيه المحترم
ولقد عرفنا في بعض شعرائنا المطبوعين أن كثيراً منهم، وخصوصاً بعد عهد جوائز الأمراء والكبراء، بله الخلفاء، كان يعمل بيديه ليرتزق مثل الجرار وخابز الأرز والرفاء والسراج والوراق ونحوهم، ولكننا نذكر مع ذلك العهد الذي كان يعال، ولو شقة اللفظة، فيه الشاعر العبقري، أو بعبارة أخرى يكفي شيئاً من الكد وراء الرزق ليتوفر على التفكير والاستيحاء، فكان للأخطل مثلا مروانه، وللمتنبي سيف دولته، وللبحتري متوكله، كما كان لشوقي توفيقه ثم عباسه، ولحافظ الأستاذ الإمام. فقال في رثائه:
لقد كنت أخشى عادى الموت قبله ... فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
وكانت في فرنسا على الأخص للمملقين من الشعراء حاميات أو راعيات يفتحن لهم (صالوناتهن)، وإلى جنب ذلك بعض الجمعيات التي تسدي العون الأدبي، وتجيز مادياً أحياناً فيجد الشاعر وخصوصاً الناشئ الذي لم يستجل بعد وجه الشهرة متكأ وظهراً ومؤازراً، أما المنكوب بالطبع الشعري اليوم، وبخاصة عندنا فأمره بيد البؤس إذا هو لم