عليهم وإزرائه بهم. . . الأستاذ الحكيم الذي يرى. . . (أن الفنان هو الكائن العجيب الذي يجب أن يلخص الطبيعة كلها بمادتها وروحها في ذاته الضئيلة المحدودة. . . ذلك الكائن الذي يعيش في داخله الحيوان. . . والإله جنباً إلى جنب!. . .)
لله ما أبدع هذا الكلام وما أروعه! لقد عاد توفيق الحكيم إلى مصر من فرنسا، فزعم أنه عاد إلى الصحراء! الصحراء التي لا تعرف الحياة الفكرية. لقد تعب من كل شيء، ومن كل إنسان، ويئس من أن بلداً كمصر يصبح في يوم قريب ذا حياة فكرية؛ لأنه لا حياة في مصر لمن يعيش للفكر. إنه يريد تحطيم كل شيء، ليهيم على وجهه في بلاد الأرض، لا تحده غاية ولا توقفه غاية، ولا يوقفه غرض! إنه يطلب إلى صديقه أن يحدثه عما عنده في الشاطئ الآخر المائج بأضواء الحياة الفكرية، وهو يخبره أنه حينما عاد إلى الشرق - أي مصر - أصابه بادئ الأمر ذهول، ذهول عن أندريه وعن كل شيء، كمن وقع من السحاب حقيقة، ثم أخذ يتصفح الوجوه والأشياء حوله. يا لها من حقيقة مؤلمة! لقد رأى نفسه في شبه عالم نائم. لقد شعر بما قد يشعر من يهبط سطح القمر الأجرد المعتم، وعاش بضعة شهور بغير نفس ولا إدراك. وحينما ألقى إليه خطاب من أندريه أفاقه من (أفيون الشرق!) فرأى أنه في حاجة إلى شخص يهز له المصباح من الشاطئ الآخر، لأنه يعيش في صحراء يصيح في أرجائها. وأنه يتألم آلام من يعيش في غير عصره. (قد تسألني أليس في مصر طبقة المستنيرين؟ نعم في مصر طبقة مستنيرة فيها كثيرون عاشوا في أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية، وفيهم من يعرف الفن الأوربي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم حتى عن برامس وباخ وهاندل. ولكن النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة الحقيقية شيء والكلام فيها شيء آخر. . . إن هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برؤوسهم ولا يدركونها بحواسهم. إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون. . . الثقافة ليست كلاماً نملأ به الرؤوس ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس. إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك أن ليس في مصر عدد أصابع اليدين من المثقفين)
ولست أدري إذا أردنا أن نحصي هؤلاء التسعة أو الثمانية المثقفين في مصر فكم منهم يكون من فئة المصورين وكم يكون - أو يكونون - من فئة الموسيقيين، ثم من المثالين