بقى أن نقول كلمة عن مدى انتشار اللغة العربية وحدود استعمالها في بلاد الداغستان
فالأستاذ راشد رستم حاول أن يصورها لغة الأسرار والأحاجي (الشفرة) يلجأ إليها المحاربون والقواد إلى إخفاء شئونهم. ونشر للتدليل على ذلك رسالة بعث بها أحد نواب الشيخ شامل إلى الشيخ شامل نفسه وقال:(ننشر نصها للدلالة على قدر معرفة بعضهم بهذه اللغة)
وهو يريد بهذا الإشارة إلى ضعف أسلوب تلك الرسالة وغموض موضوعها بعض الشيء
وأنا أكتب هذه الأسطر وبين يدي عشر رسائل مختلفة كتبت في الشئون العامة من شئون الناس في الحياة، وفيها الطويل المسهب والقصير الموجز، وليس فيها ما هو أدنى أسلوباً من الرسالة التي نشرها الأستاذ. بل إن فيها رسائل كتبت بأسلوب أدبي عال إلى حد ما. وكنت أريد إثبات بعضها لولا ضيق نطاق الصحف في هذه الأيام
وأمامي أيضاً قصيدتان إحداهما للشيخ غازي محمد الكمراوي في تسعة أبيات، والأخرى للشيخ اسحق المشهور بجمال القرباني في نحو أربعين بيتاً، والقطعتان من الشعر الذي لا بأس به، إذا لوحظ العصر الذي قيلت فيه، وهو القرن التاسع عشر الميلادي، والبلاد التي نشأ بها الشاعران وهي بلاد انقطعت صلتها بالحكم العربي من نحو ألف عام تقريباً
وفي مكتبة رواق الأتراك في الأزهر الشريف قصيدة في نحو ألف بيت من الشعر القوي الرصين للشيخ نجم الدين الداغستاني
وهكذا إلى ما لا يحصى من الآثار النثرية والشعرية والعلمية التي خلفها الداغستانيون في اللغة العربية، مما يثبت أن اللغة العربية في الداغستان كانت أوسع مدى وأكثر انتشاراً مما يبدو لأول وهلة. بل يثبت إلى حد ما أنها كانت لغة الثقافة العامة والثقافة الدينية بصفة خاصة. ومما يزيد هذا القول أنه كانت تصدر في الداغستان صحيفة عربية إلى وقت قريب؛ أصدرها أحد العلماء قبل الحرب العالمية الماضية باسم (الداغستان)
فإذا كان لا يفهم العربية في الداغستان إلا العلماء والمتفقهون - كما يقول الأستاذ راشد رستم - فهل في الداغستان من العلماء والمتفقهين تلك الكثرة التي تكفي لحياة صحيفة عربية ليس لها من القراء إلا هؤلاء العلماء والمتفقهون؟