للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلا عما أضاءت لك في الحياة عيناها. فإذا دنت إليك فكن ما شئت إلا أن تكون حيا ذا إرادة تطيق أن تتصرف، وذر كل شيء إلا عطر أنفاسها وضياء وجهها، وغمامة تظلل روحك النشوى طائفة عليك بأطراف شعرها المتهدل كحواشي الليل على جبين الفجر، وخذ بناناً رخصاً مطرفاً كثمار العناب تغذوها يد بضة بيضاء يحار فيها مثل ماء الصفا، فلقد قبلتها يوماً ظننت أن قد أطفأت بها غليلي فزادتني غلة وصدى، فما نفعني في نار هذه الحمى إلا ما لم أزل أجد من بردها وطيبها وعذوبتها على شفتي حتى اليوم. ولا والله إن رأيت كمثلها امرأة إذا حدثت، فكأنما تسكب في روحي سر الحياة يهمس عن شفتين رقيقتين ضامرتين كأن الدم فيها مكفوف وراء غلالة من النعمة والشباب. فآه من الثريا! لقد حجبت عني كل نجم كان يلوح لي في الدياجي يلهمني أو يغويني. . . وي، ما دهاك أيها الرجل؟

ورأيت ابن أبي عتيق يتخطاني بعينيه ينظر إلى الباب من ورائي، قد انتسف وجهه وغاض من الدم كأنما يرى هؤلاًء هائلاً قد أوشك أن ينقض عليه، وما كدت أرد الطرف حتى سمعت من يقول: السلام عليكما يا عمر! وأنت يا ابن أبي عتيق مالك تنظر إلي كالمغشي عليه لا ترف منك عاملة ولا ساكنة؟ وما بك يا أبا الخطاب! أترى الحمى كانت منك على ميعاد؟ لقد أقبلت أمس من سفري، وكان الليل قد أوغل فتلقاني ولدك جوان فأنباني أن الحمى قد وردتك فأردعت عليك أياماً فنهكتك حتى خيفت عليك برحاؤها. وأن ابن أبي عتيق جزاه الله عنا وعنك خيراً أبي إلا أن يتعهدك بمرضك حتى تبرأ وتستفيق، وإني لأراك بارئاً يا أبا الخطاب.

فوالله لقد سكنت نفسي لما أتم كلامه وسكت، وأدنى يده يجسني جس المشفق. ورأيت ابن أبي عتيق يثوب كأنما كان في كرب يغته ويعصره ثم أرسله فعاد إليه الدم. فهذا أخي الحارث (هو الحارث بن أبي ربيعة أخو عمر) سيد من سادات قريش شريف كريم عفيف دين، ما رآه امرؤ إلا دخلته الرهبة له حتى تتعاظمه. فما زاده أن كانت أمه سوداء من حبش إلا رفعة ومكاناً. ولقد كان عبد الملك بن مروان ينازع عبد الله ابن الزبير أمر الخلافة، وكان ابن الزبير قد ولى الحارث بعض الولايات، فلما جاءه النبأ بولاية الحارث قال: أرسل عوفاً وقعد! ولا حر بوادي عوف. فابتدر من المجلس يحيى بن الحكم وقال: ومن الحارث يا أمير المؤمنين؟ ابن السوداء! فقال له عبد الملك: خسأت، فوالله ما ولدت

<<  <  ج:
ص:  >  >>