من الألفاظ والعبارات التي تركتهم يحصونها ولا يكادون يفرغون منها لكثرتها. وقد كنت أكتب ما يذكرون منها في ورقة بسرعة فائقة؛ فلما سكتوا سألتهم رأيهم في هذه الكلمات، أشر هي؟ وهل فيها كلمة لم يعمل الدوق السليم فيها عمله؟ وعلام تدل هذه الكثرة العجيبة من تلك الألفاظ والعبارات المنتقاة؟ أهي دليل فقر في محصول الشاعر الأدبي واللغوي، أم هي دليل شئ آخر غير الفقر؟ والمعاني التي تساعد هذه الألفاظ في أدائها؟ ألغو هي؟ أم هي من أدق المعاني وأحلاها وأكثرها طلاوة؟ وهل نسينا أن لكل كاتب ولكل شاعر أسلوبه الخاص، وأن لهذا الأسلوب الخاص مشخصات تشبه علائم الطريق؛ فهي تميزه وتعرف به. . . فالدكتور طه حسين مثلاً يلتزم عبارات تعينها يرددها في كل كتبه أو في معظم كتبه؛ وهو يرددها أكثر مما يرددها أي كاتب آخر، بل لعل معظم الكتاب في مصر وفي العالم العربي لا يرددون من عبارات الدكتور طه حسين شيئاً، تلك العبارات التي يعرف بها أسلوبه بين مائة أسلوب أو أكثر من ذلك لو أنه وضع بينها. وكذلك أسلوب الأستاذ العقاد، ذلك الأسلوب القوي الذي يفيض بفحولة تتعب إفهام القراء أحياناً، وهو تعب تنتج عنه لذة ذهنية عجيبة إذا استطاع القارئ أن يدرك المعنى الحقيقي الذي يرمي إليه الكاتب الكبير، فإذا لم يستطيع القارئ إدراك هذا المعنى أحس عند تلك الفقرة أو ذلك السطر من كتابة الأستاذ العقاد بمرارة، لكنه مع ذلك يمضي في القراءة مأخوذاً بالجمال الكلي عن هذه الجزيئات الهينة. وللأستاذ المازني مشخصات عجيبة في أسلوبه، تميزه من جميع أساليب الكتاب المصريين والكتاب العرب على حد سواء، فهو دائماً (يمط بوز) أبطال مقالاته و (يمط شفاههم!)، وهو مولع بترديد (حملاق العين) في جميع كتاباته أو في أكثرها، وفي قصته الجميلة (إبراهيم الثاني) تردد هذا (الحملاق) أكثر من أربعين أو خمسين مرة كما ترددت هذه العبارات مراراً:
(أي نعم، ليس إلا، لا تجعل بالك إلى كذا، من الحزامة أن تصنع كذا، التبات والنبات، باسها، الحب الآخذ بالكليتين؟)
ولست أدري كيف يأخذ الحب بالكليتين، والذي أعرفه هو الحب الذي يأخذ بمجامع القلوب مثلاً. ولأسلوب الأستاذ (المازني) مشخصات أخرى عجيبة سنعود إليها في موضع آخر إن شاء الله