بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع، لمصلحة هذه الحياة نفسها وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة!
هذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد فيه من هذه وفيه من تلك على غير بينهما ولا انفصال
ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن، ويقظة الوعي وشيكا أن يبذل قواه كلها للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع يجرف قوى الذهن والوعي لتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد منه القوة وله عليها السيطرة في النهاية!
وكثير من الفنانين يقوم في نفوسهم صراع بين مثلهم العليا وبين سلوكهم في الحياة. بين ما يصطرع في كيانهم من غرائز يستقذرونها وما يحلق في أرواحهم من أشواق يهفون إليها؛ فأما العقاد فقد عقد صلحاً مبكراً بين غرائزه ووجداناته فهو لا يفعل ما يستقذره ولا يستقذر ما يفعله، وبين ذلك قوام! وللحيوية عند العقاد شفاعتها الحاضرة فيما تأخذ وما تدع من الأمور. . . أأقول شفاعتها؟ ألا إنها ليست في حاجة إلى الشفاعة؛ فهي نفسها الشفيع الذي لا يرد له كلام، والمقوض الذي لا يسأل حتى عن أوراق الاعتماد! وليست هي إذن في حاجة إلى الشفاعة والاعتذار بقدر حاجتها إلى الثناء والإطراء. هكذا يعجب بمحمد في الأنبياء، وعمر وأبي بكر والإمام في الخلفاء، وبالصديقة بنت الصديق في النساء، كما يعجب بالمتنبي وابن الرومي في الشعراء، وبنيتشه وجيته في الأدباء، وبسعد ومصطفى كمال في الزعماء. . . وهؤلاء وأولئك وسواهم ممن نالوا إعجابه، إنما يلتقون أولاً في صفة الحيوية، ثم يختلفون في مدى هذه الحيوية ونوعها، وفي اتجاهها ومظاهرها كل حسب وظيفته في الحياة
وإن إعجاب العقاد بالحيوية ليطرد فتنشأ عنه آراؤه في الحياة والأخلاق، وفي الانفعال والسلوك، وفي الأحداث والأشخاص، وفي الفن والنقد. وما من رأى له في المدارس الأدبية وفي طرائق الأدباء، وفي الفن والسياسة وفي الارتياء والاعتقاد، يبهم أو يستغلق إذا عالجه الناقد بهذا المفتاح!
أعمال العقاد الفنية لتؤلف جميعها نشيداً واحداً مطرداً في تمجيد الحيوية بكل معانيها