على أننا لا نعتمد في تقرير هذه الحقيقة على ما يقول، فقد يستوحي الأديب قراءاته أو أفكاره ثم يقول! ولكننا نعتمد على الإنسان الحي في العقاد، وعلى سلوكه في حياته الشخصية والسياسية والفنية، وعلى انتباهه الحاد لكل نيضة حية في نفوس الآخرين وسلوكهم، ولكل التفاتة منهم إلى الحيوية النابضة في الكون والحياة. وذلك هو البرهان الحي الصحيح في فهم الطبائع والخصائص والاتجاهات.
وأدوات الاتصال بالحياة عند العقاد هي حواس يقظة متفتحة، تؤدي إلى حس متوفر مكتمل، يفضي إلى وجدان زاخر عميق، ولهذه الأدوات كلها مدد من بداهة الطبع وومضات الفكر، وسبحات الروح، في توازن وانسجام وإن الاتصال بينه وبين الحياة ليتم تارة من الخارج إلى الداخل، وتارة من الداخل إلى الخارج (إذا لم يكن بد من هذا التجسيم). . . حاسة توقظ حساً فيذكو ويتوهج، وحس يثير وجداناً فيشع ويفيض. أو وجدان ينفعل ليوقظ الحس فيفتح الحواس. وهذا وذلك على حسب الحالات النفسية وعلى حسب المؤثرات المختلفة. وإن المنافذ لمفتوحة علواً وسفلا، بل لا علو ولا سفل، إنما هي قوة واحدة متعددة المنافذ مشتبكة المسالك، متصلة بالحياة، تلتقي فيها الأرض بالسماء، بل لا أرض هناك ولا سماء، إنما هو عالم واحد والروح والمادة مظهران لحياة واحدة و (الدنيا جمال نصل إليه من طريق الضرورة، وروح نلمسها بيد من المادة)
وهذا العالم الواحد هو الذي ندرك الظاهر منه بالحس والحواس، وندرك المكنون منه بالبداهة والوجدان، أو ندركه ظاهراً وباطناً في لمحة واحدة بجميع هذه الأدوات؛ فما ظاهره إلا رمز لمكنونه. وقيمة هذا الظاهر مستمدة مما يرمز إليه من مكنون وكلاهما حق وصدق لأنهما شيء واحد في النهاية!
قالوا الحياة قشور ... قلنا فأين الصميم
إن الحياة حياة ... ففارقوا أو أقيموا
ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان