(فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم يعني يوم البيعة، اجتمع الناس وحضر الرسل المتوجهون إلى الملك بركة. فبرز الخليفة وعليه سواده، وصعد المنبر وخطب وصلى الجمعة بالناس ودعا للملك الظاهر وللمسلمين)
(ثم اجتمع الرسل بالخليفة والسلطان وحملهم السلطان من المشافهة ما فيه صلاح الإسلام؛ وعرف أصحابه التتار أحوال عساكره وكثرتها وما هو بصدده من جهاد وما يبذله من الأموال في نصرة الدين، وقتال الأعداء المشركين، وأنه محب للملك بركة وداع له بالنصر على الأعداء، فوافق له على ما فيه صلاح العالم)
هذه صفحة من التاريخ الإسلامي لم تعط كفاءها من القراءة والتأمل، وفصل من سياسة مصر في جهاد أعداء الإسلام لم ينل نصيبه من الإيضاح والشرح. هاهو ذا الملك الظاهر بيبرس وأمراؤه وعلماء مصر وكبراؤها يحيون الخلافة العباسية ليجمعوا عليها قلوب المسلمين، ويثبتوهم في تلك الفتن المحيرة، والكوارث المروعة. وهاهم أولاء يرسلون الكتب والهدايا والرسل إلى بركة خان ابن عم هولاكو، لينحاز إليهم ويحارب بني عمومته ويفل حدهم، ويكف بأسهم عن البلاد الإسلامية. وليس اختفاء السلطان بمبايعة الخليفة العباسي وإثبات نسبته إلى الرسول وإرسالها إلى الملك بركة، وصلاة الخليفة بالناس، وحضوره مفاوضة السلطان والرسل - ليس هذا كله إلا إعلاء لشأن الخلافة وإيذاناً لبركة بأن الخلافة التي أزالها ابن عمه وخصمه وعدو المسلمين هولاكو، قد حيت في مصر وكتبت إليه تستنجده وتستنصره بالإسلام دينه الذي ارتضاه وأنعم الله به عليه
وهذه مأثرة لسلاطين مصر في القرن السابع بعد بلائهم المشكور في دفع الصليبيين مائتي عام، وقبل جهادهم لرد تيمور عن الشام ومصر في مفتتح القرن التاسع. وإنها لمفاخر خالدة ومساع محمودة جديرة بعناية مؤرخي الإسلام
سار رسل الملك الظاهر حتى بلغوا القسطنطينية فلقوا بها رسل الملك بركة المتوجهين إلى مصر؛ فرجع معهم أحد الرسل المصريين، وهو الفقيه مجد الدين ألجأه المرض إلى العودة. وكتب ملك الروم إلى الظاهر أن رسله قدموا سالمين وتوجهوا إلى الملك بركة في صحبة رسل من عنده. ومؤرخو المسلمين يسمون ملك القسطنطينية في ذلك العصر الأشكري وهو تعريب اسم الأسرة التي سيطرت على مملكة الروم الشرقية في تلك العصور