منعمة الأطراف هيفٌ بطونُها ... كواعب تمشي مشية الخيل في الوحل
وأعناقها أعناق غزلان رملة ... وأعينها من أعين البقر النجل
وأثلاثها السفلى بَرادِيَّ ساحل ... وأثلاثها الوسطى كثيب من الرمل
وأثلاثها العليا كأن فروعها ... عنا قيد تُغذَّى بالدهان وبالغَسل
وتَرمي فتصطاد القلوب عيونها ... وأطرافها ما تحسن الرمي بالنبل
زرعن الهوى في القلب ثم سقينه ... صبابات ماء الشوق بالأعين النجل
رعابيبُ أَقصدن القلوب وإنما ... هي النبل ريشت بالفتور وبالكحل
ففيم دماء العاشقين مُطَلَّةٌ ... بلا قوَد عند الحسان ولا عقل
ويقتلن أبناء الصبابة عنوة ... أما في الهوى يا رب من حَكم عدل
وما انتهى المجنون من أنشودته هذه حتى لمح غزالاً يقفز متحيراً في الأفق البعيد فهب واقفاً وهو يقول:
ألا يا شبه ليلى لا تراعي ... ولا تنسل عن وِرْدَ التلاع
لقد أشتهتها إلا خلالا ... نشوز القرن أو خمش الكراع
ثم جعل يعدو خلف الغزال حتى كاد يلحق به واختفى معه عن أعين الحادي وقافلة الحجاج
خرج زياد بن مزاحم يبحث عن ابن عمه (قيس)، فوجده جالساً على ربوة قريبة، يخطط بإصبعه في التراب، ويحدق أمامه نحو مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ولما عرفه المجنون ناداه فجلس إلى جانبه يحدثه عن أهل الحي وأخبارهم، وعن رجوع والده من مكة - بعد سماع قصة الحادي - حزيناً مكتئباً، وبقى زياد عنده يستنشده الشعر ويدون ما يسمعه منه. ودلسا ذات صباح يتحدثان فظهر، لهما شبح امرأة قادمة نحوهما، ثم أخذت تقترب منهما شيئاً فشيئاً حتى تبيناها، فإذا بها (بلهاء) جارية المجنون وكانت تحمل بين يديها قصعة بها طعام، وقام إليها المجنون يعانقها ويقبل بيديها، وتناول منها القصعة وهو يقول:
أرى صنع أمي يا زياد، فديتها ... بروحي وإن حَّملتها الهم والَبْرحا
ثم نزع عن القصعة غطاءها فوجد بها ذبيحة مشوية، فعجب لذلك والتفت إلى زياد مستفهماً، إذ لم يكن في الوقت ما يدعو إلى ذلك. وسئل زياد البلهاء أن تحدثهما بخبر هذه