ودفعت عنك ما يظنه الناس فيك، وما تظنه أنت بنفسك من البعثرة بين الزهر والخمر، وبين أطياف سافو وأفروديت وتاييس وبليتيس. . .
على أنني لست أدري لماذا تستأثر بخيالك أشباح اليونان الغابرة، ولماذا نسيت في هذه الأشباح والأرواح مصر الخالدة الحاضرة؟ فهل رأيت كيف لم تستطع الانسلاخ من الشرق العزيز الحبيب حين هتف بك هذا الصوت من السماء في آخر المنظومة، فردك إلى وادي الوحدانية المؤمنة، وأقصاك عن الأولمب الوثني ذي الآلهة المتعددة، وذلك حينما قلت:
أم الشك آذنني بالصرا ... ع أم حل بي غضب المنتقمْ
فجلجل في أذنيك - أو أوحى إليك. . . بأن تدع للسماء تصاريفها. . .
ولكن. . . لا غبار عليك، فلست أول مفتون بجمال الميثولوجيا اليونانية التي ظلت أحقاباً وأحقاباً مصدراً لإلهام الشعراء. . . ولعلك جاعل لمصر نصيباً في غير هذه المنظومة إن شاء الله.
هذا من حيث الموضوع. . . أما من حيث الشكل فالنقد أيسر ما يجري به قلم الناقد. . . ولعل أول ما يلفت النظر في سياق أشباح وأرواح هو طريقة الانتقال هذه من مقطوعة إلى مقطوعة، ومن حوار إلى حوار. . . ولو كانت المنظومة تمثيلية لما كان ثمة موضع لمؤاخذة. ولكن المنظومة قصة خيالية، فلماذا لم تنظم هذه الكلمات الانتقالية التي كتبت بالمداد الأحمر، مع أنها تصور مناظر خلابة كهذه الكلمات التي مهج بها لمقطوعة (الحية الخالدة)، والكلمات الواردة في صفحة ٦٤ التي يقول فيها:(هرمز ينظر إلى غمائم بيض) قريبة وكأنه يترقب شيئاً والتي في صفحة ٦٥ والتي في صفحة ٧٨ التي تصور انشقاق الغمامة عن الشاعر في موقف اضطراب. . . . . .
لقد كان هوميروس بارعاً جداً في مثل هذه الانتقالات. . . لقد كان ينطق أخيل مثلاً بكلام، فإذا انتهى أخيل وأراد خصمه هكتور أن يتكلم، تجلت عبقرية هوميروس في وصف أثر كلمات أخيل في نفس خصمه، وفي نفوس الطرواديين. . . فإذا تكلم هكتور وفرغ من كلامه، مهد هوميروس للمنظر الذي يلي بشعر يعتبر من غرر الإلياذة الخالدة. وكذلك كان يصنع في الأوديسة. ومنظر انشقاق الغمامة عن الشاعر هو منظر تصويري مبتكر، فكيف يكون خيال شاعرنا الرقيق الموهوب أكثر عبقرية من تعبيره الكلامي؟ ولماذا لم يلبس هذا